فصل: المراد بالصّيغة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


حوالة

التّعريف

1 - الحوالة في اللّغة‏:‏ من حال الشّيء حولاً وحؤولاً‏:‏ تحوّل‏.‏ وتحوّل من مكانه انتقل عنه وحوّلته تحويلاً نقلته من موضع إلى موضع‏.‏

والحوالة بالفتح مأخوذة من هذا، فإذا أحلت شخصاً بدينك فقد نقلته إلى ذمّة غير ذمّتك‏.‏

2 - والحوالة في الاصطلاح‏:‏ نقل الدّين من ذمّة إلى ذمّة‏.‏ فمتى تمّ الإيجاب والقبول تحميلًا وتحمّلًا لأداء الدّين من المحتمل إلى الدّائن، بين اثنين من الثّلاثة الأطراف المعنيّة، الدّائن والمدين والملتزم بالأداء، مع الاستيفاء لسائر الشّرائط الّتي ستأتي، فقد تمّ هذا النّقل من الوجهة الشّرعيّة‏.‏ مثال ذلك أن يقول للدّائن قائل‏:‏ لك على فلان دين مقداره كذا فاقبل حوالته عليّ، فيقول الدّائن‏:‏ قبلت أو يبتدئ الدّائن فيقول لصاحبه‏:‏ لي على فلان كذا، فاقبل دينه عليك حوالةً، فيجيب‏:‏ قد فعلت‏.‏

3 - بعد هذا التّعريف يتبيّن ما يلي‏:‏

أ - أنّ المحيل هو المدين، وقد يكون دائناً أيضاً باعتبار آخر - كما سنرى -، وهو طرف في العقد إذا باشره بنفسه أو أجازه‏.‏

ب - وأمّا المحال، فهو الدّائن، وهو أبداً طرف في العقد، إمّا بمباشرته، وأمّا بإجازته‏.‏ ويقال له أيضاً‏:‏ حويل، ومحتال ‏"‏ بصيغة اسم الفاعل ‏"‏‏.‏

ولا يقال‏:‏ محال له، أو محتال له، لأنّ هذه الصّلة لغو - كما قال في المغرب - وإن أثبتها البعض، وتكلّف ابن عابدين تصحيحها‏.‏

ج - وأمّا المحال عليه - ويقال له أيضاً‏:‏ حويل، بزنة ‏"‏ كفيل ‏"‏، ومحتال عليه - فهو الّذي التزم لأحد الآخرين بديته على ثانيهما، وهو أيضاً أبداً طرف في العقد، على نحو ما ذكر في المحال‏.‏

د - وأمّا المحال به، ‏"‏ ويقال‏:‏ المحتال به ‏"‏ فهو الدّين نفسه الّذي للمحتال على المحيل، وهو هنا محلّ عقد الحوالة‏.‏

ألفاظ ذات صلة

أ - الكفالة أو الضّمان‏:‏

4 - الكفالة أو الضّمان لغةً‏:‏ الالتزام بالشّيء‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ ضمّ ذمّة الضّامن إلى ذمّة المضمون عنه في التزام الحقّ‏.‏

والفرق بين الحوالة والكفالة أو الضّمان‏:‏ أنّ الحوالة نقل للدّين من ذمّة إلى ذمّة أخرى، أمّا الكفالة أو الضّمان فهو ضمّ ذمّة إلى ذمّة في الالتزام بالحقّ فهما متباينان، لأنّ بالحوالة تبرأ ذمّة المحيل، وفي الكفالة لا تبرأ ذمّة المكفول‏.‏

ب - الإبراء‏:‏

5 - الإبراء لغةً‏:‏ التّنزيه والتّخليص والمباعدة عن الشّيء‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ إسقاط الشّخص حقًّا له في ذمّة آخر أو قبله‏.‏ والفرق بين الحوالة والإبراء، أنّ الحوالة نقل للحقّ من ذمّة إلى ذمّة، والإبراء إسقاط للحقّ‏.‏

الحكم التّكليفيّ

6 - الحوالة بالدّين مشروعة يدلّ لذلك ما يأتي‏:‏

أ - السّنّة‏:‏

7 - روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مطل الغنيّ ظلم، فإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع»، وفي لفظ عند الطّبرانيّ في الأوسط‏:‏ «ومن أحيل على مليء فليتبع» وفي آخر عند أحمد وابن أبي شيبة‏:‏ «ومن أحيل على مليء فليحتل» وقد يروى بفاء التّفريع‏:‏ «وإذا أحلت على مليء فاتبعه»، فيفيد أنّ ما قبله علّته، أي أنّ مطل أهل الملاءة واليسار ظلم محرّم في الإسلام، فلا يخشينه مسلم فيأبى من خشيته قبول الحوالة على مليء بل إنّه لمأمور بقبولها‏.‏

ب - الإجماع‏:‏

8 - انعقد الإجماع على مشروعيّة الحوالة‏.‏

ج - القياس‏:‏

9 - الحوالة مقيسة على الكفالة، بجامع أنّ كلّاً من المحال عليه والكفيل قد التزم ما هو أهل لالتزامه وقادر على تسليمه، وكلاهما طريق لتيسير استيفاء الدّين، فلا تمتنع هذه كما لم تمتنع تلك‏.‏ والحاجة تدعو إلى الحوالة، والدّين يسر‏.‏

واستدلّ الحنفيّة بقياس المجموع على آحاده‏:‏ ذلك أنّ كلّاً من نوعي الحوالة ‏(‏المطلقة أو المقيّدة‏)‏ يتضمّن تبرّع المحال عليه بالالتزام والإيفاء، وأمره بالتّسليم إلى المحال، وتوكيل المحال بالقبض منه‏.‏ وما منها خصلة إلاّ وهي جائزة على الانفراد، فلتكن كذلك عند الاجتماع، بجامع عدم الفرق‏.‏

10 - واختلفوا في قبول المحال للحوالة المأمور به في الحديث، هل هو أمر إيجاب، أم ندب أم إباحة‏؟‏ قال بالأوّل أحمد وأبو ثور وابن جرير‏.‏

لأنّه الأصل في صيغة الأمر، وقال بالثّاني‏:‏ أكثر أهل العلم، ومنهم من يصرّح بتقييده بأن يكون المليء ليس في ماله شبهة حرام‏.‏ وإنّما صرفوا الكلام عن ظاهره إلحاقاً للحوالة بسائر المعاوضات، لأنّها لا تخلو من شوب معاوضة‏.‏

واستظهر الكمال بن الهمام أنّه أمر إباحة، لأنّ أهل الملاءة قد يكون فيهم اللّدد في الخصومة والمطل بالحقوق، وهو ضرر لا يأمر الشّارع بتحمّله، بل بالتّباعد عنه واجتنابه‏.‏ فمن عرف منهم بحسن القضاء استحبّ اتّباعه، تفادياً للمساس بمشاعره، وتنفيساً عن المدين نفسه، ومن جهل حاله فعلى الإباحة، إذ لا ترجيح بلا مرجّح‏.‏

وبعض الشّافعيّة يجعل الملاءة شيئاً، وكلّاً من الإقرار بالدّين وعدم المماطلة شيئاً آخر‏.‏ وذلك إذ يقول‏:‏ يسنّ قبولها على مليء، مقرّ، باذل، لا شبهة في ماله‏.‏

حقيقة عقد الحوالة وحكمة مشروعيّتها

11 - يرى الحنفيّة والحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة، أنّ الحوالة مستثناة من بيع الدّين بالدّين، ونسب النّصّ عليه إلى الشّافعيّ نفسه لأنّ كلّ واحد ملك بها ما لم يكن يملك، فكأنّما المحال قد باع ما له في ذمّة المحيل بما لهذا في ذمّة مدينه‏.‏

وعبارة صاحب المهذّب من الشّافعيّة‏:‏ الحوالة بيع في الحقيقة‏:‏ لأنّ المحتال يبيع ما له في ذمّة المحيل بما للمحيل في ذمّة المحال عليه، أو أنّ المحيل يبيع ما له في ذمّة المحال عليه بما عليه من الدّين‏.‏ وجزم به ابن رشد الحفيد من المالكيّة أوّل كلامه، إذ يقول بإطلاق‏:‏ والحوالة معاملة صحيحة مستثناة من الدّين بالدّين‏.‏

فالحوالة، على هذا، بيع دين بدين، أو كما يقول في الحاوي الزّاهديّ‏:‏ ‏"‏ هي تمليك الدّين من غير من هو عليه ‏"‏، والقياس امتناعه، ولكنّه جوّز للحاجة، رخصةً من الشّارع وتيسيراً‏.‏ فكثيراً ما يكون المدين مماطلاً، يؤذي دائنيه بتسويفه وكذوب وعوده، أو بمشاغباته وضيق ذات يده، وربّما كان له دين على آخر هو ألين عريكةً، وأحسن معاملةً، وأوفر رزقاً، فيرغب دائنو الأوّل في التّحوّل إلى هذا توفيراً للجهد والوقت، واتّقاءً لأخطار الخصومات، وتحصيلاً لجزء من المال عاطل، يمكن أن تنمّى به ثروة، أو تسدّ به خلّة‏.‏ فرخّص في الحوالة من أجل هذا وما شاكله، إذ لو لم تشرع لفاتت كلّ هذه الأغراض الصّحيحة، ولحاقت بالدّائنين أضرار جمّة، ولا ضرر ولا ضرار في الإسلام‏.‏

والعكس صحيح أيضاً‏:‏ فربّما كان المحال عليه مماطلاً، وكان المحال أقدر من المحيل على استخلاص الحقّ منه، ولولا الحوالة لطال عناء الدّائن الضّعيف، أو لضاع ماله‏.‏

وليس في كلّ وقت يتاح الوكيل الصّالح، وإن أتيح فقلّما يكون بغير أجر‏.‏

على أنّ الوكالة لا تغني في الحالة الأولى، لأنّها عقد غير لازم‏:‏ فقد يوكّل المدين المماطل دائنه في استيفاء الدّين، ويسلّطه على تملّكه بعد قبضه، تحت ضغط ظروف خاصّة، ثمّ لا يلبث أن يعزله قبل قبضه، فيعود كما بدأ‏.‏

12 - ولا يبعد كثيرًا عن هذا المذهب من الرّأي رأي الذّاهبين إلى أنّ الحوالة بيع عين بعين تقديراً‏.‏ وقد يوضّحه أنّ المقصود بالدّين هو الماصدق الخارجيّ له، إذ المعاني الكلّيّة القائمة بالذّمّة، كمائة ثوب أو دينار، لا تعني لذاتها - وكذا لا يبعد عنهم الرّأي القائل بأنّها بيع عين بدين - وهذا قد يقرب من مذهب الحنفيّة إذا كانت الحوالة مقيّدةً على ما قرّره الزّاهديّ، إذ المقصود عندهم بالمبيع عينه، لتعلّق الحاجة بمنفعتها الذّاتيّة، أمّا المقصود بالثّمن فماليّته‏.‏ ولذا يكون للمشتري تسليم مثله مع بقائه، ولو تلف أو استحقّ لا يبطل العقد، ويسلّم المثل، نعم في الحوالة المطلّقة الّتي تفرّد بها الحنفيّة لا يتصوّر معنى البيع على حال، وهي بالحمالة ‏(‏الكفالة‏)‏ أشبه‏.‏

13 - على أنّ ابن تيميّة وتلميذه ابن القيّم لا يسلّمان بأنّ الحوالة واردة على خلاف القياس وإن كان فيها بيع دين بدين‏.‏ وفي ذلك يقرّر ابن القيّم في إعلام الموقّعين أنّ امتناع بيع الدّين بالدّين ليس فيه نصّ عامّ، ولا إجماع‏.‏ وإنّما ورد النّهي عن بيع الكالئ بالكالئ، والكالئ هو الشّيء المؤخّر الّذي لم يقبض، كما لو أسلم شيئاً في شيء في الذّمّة، وكلاهما مؤخّر، فهذا لا يجوز بالاتّفاق، وهو بيع كالئ بكالئ‏.‏

وأمّا بيع الدّين بالدّين فهو على أربعة وجوه‏:‏ إمّا أن يكون بيع واجب بواجب كالصّورة الّتي ذكرنا، وهو الممنوع، أو يكون بيع ساقط بساقط ‏"‏ كما في صور المقاصّة ‏"‏، أو يكون بيع ساقط بواجب ‏"‏ كما لو باعه ديناً له في ذمّته، بدين آخر من غير جنسه ‏"‏، فقد سقط الدّين المبيع ووجب عوضه، أو يكون بيع واجب بساقط ‏"‏ كما لو اشترى من مديونه قمحاً على سبيل السّلم بالدّين الّذي له عليه فقد وجب له عليه دين، وسقط عنه غيره ‏"‏‏.‏

وقد حكى بعضهم الإجماع على امتناع هذا شرعاً، ولا إجماع فيه‏.‏

ونقل تلميذه ابن القيّم عنه اختيار جوازه، ثمّ قال‏:‏ وهو الصّواب، إذ لا محذور فيه، وليس بيع كالئ بكالئ فيتناوله النّهي بلفظه، ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى‏.‏ فإنّ المنهيّ عنه قد شغلت فيه الذّمّتان بغير فائدة‏:‏ فإنّه لم يتعجّل أحدهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله، وينتفع صاحب المؤخّر بربحه، بل كلاهما شغلت ذمّته بغير فائدة‏.‏

وأمّا ما عداه من الصّور الثّلاث فلكلّ منها غرض صحيح، ومنفعة مطلوبة، وذلك ظاهر في مسألة التّقاصّ‏:‏ فإنّ ذمّتهما تبرأ من أسرها، وبراءه الذّمّة مطلوب لهما وللشّارع‏.‏

وأمّا في الصّورتين الآخرتين‏:‏ فأحدهما يعجّل براءة ذمّته والآخر ينتفع بربحه، يعني فثمّ نفع في مقابلة نفع، فتجوز، كما في بيع العين بالدّين سواء اتّحدت الذّمّة أم اختلفت‏.‏

14 - وهناك أقوال أخر أجملها السّيوطيّ في ستّة‏:‏

- 1 - بيع‏.‏

- 2 - استيفاء‏.‏

- 3 - بيع مشتمل على استيفاء‏.‏

- 4 - استيفاء مشتمل على بيع‏.‏

- 5 - إسقاط بعوض‏.‏

- 6 - ضمان بإبراء‏.‏

15 - والصّحيح عند الحنابلة أنّ الحوالة عقد إرفاق منفرد بنفسه ليس بمحمول على غيره وليست الحوالة بيعاً، لأنّها لو كانت بيعًا لكانت بيع دين بدين ولمّا جاز التّفرّق قبل القبض، وليست في معنى البيع لعدم العين فيها، وهذا موافق للمعتمد عند الحنفيّة، إذ يقولون‏:‏ ‏"‏ الحوالة ما وضعت للتّمليك، وإنّما وضعت للنّقل ‏"‏‏.‏

أو لقول بعض الشّافعيّة، كما يفهم من عبارة صاحب المهذّب‏:‏ إذا أحال بالدّين انتقل الحقّ إلى المحال عليه، وبرئت ذمّة المحيل، لأنّ الحوالة إمّا أن تكون تحويل حقّ، أو بيع حقّ، وأيّهما كان وجب أن تبرأ به ذمّة المحيل‏.‏

وهو عند المالكيّة صريح كلامهم في تعليل شريطة تساوي الدّينين قدراً وصفةً‏:‏ هذا ابن رشد الحفيد نفسه - على خلاف ما تقدّم له - يعود فيقول‏:‏ ‏"‏ لأنّه إن اختلفا في أحدهما كان بيعاً ولم يكن حوالةً ‏"‏ فخرج من باب الرّخصة إلى باب البيع، وإذا خرج إلى باب البيع دخله الدّين بالدّين‏.‏

إلاّ أن يكون تأويل كلامه ما قاله بعض المالكيّة‏:‏ ‏"‏ إنّ الحوالة من أصلها مستثناة من بيع الدّين بالدّين، فهو لازم لها، إلاّ أنّه إذا استوفيت شرائط الصّحّة كان ذلك هو محلّ الرّخصة ‏"‏ وإذن يظلّ المالكيّة - قولاً واحداً - مع القائلين بأنّ الحوالة مستثناة من بيع الدّين‏.‏

ولكن الواقع أنّ الخلاف ثابت عندهم،غير أنّ أكثرهم على أنّها مستثناة من بيع الدّين بالدّين‏.‏

16 - وإليك ما قاله ابن تيميّة‏:‏ الوجه الثّاني‏:‏ - يعني ممّا يبيّن أنّ الحوالة على وفق القياس - أنّ الحوالة من جنس إيفاء الحقّ، لا من جنس البيع، فإنّ صاحب الحقّ إذا استوفى من المدين ماله كان هذا استيفاءً، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدّين عن الدّين الّذي في ذمّة المحيل، ولهذا ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم الحوالة في معرض الوفاء، فقال في الحديث الصّحيح‏:‏ «مطل الغنيّ ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع»

‏:‏ فأمر المدين بالوفاء، ونهاه عن المطل، وبيّن أنّه ظالم إذا مطل، وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على مليء‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ‏}‏‏.‏ أمر المستحقّ أن يطالب بالمعروف، وأمر المدين أن يؤدّي بإحسان‏.‏

ووفاء المدين ليس هو البيع الخاصّ، وإن كان فيه شوب معاوضة‏.‏

تقسيم الحوالة وبيان أنواعها

17 - تتنوّع الحوالة عند الحنفيّة، إلى نوعين أصليّين‏:‏

أ - حوالة مقيّدة‏.‏

ب - وحوالة مطلقة‏.‏

ثمّ تتنوّع الحوالة المطلقة، بدورها، إلى نوعين فرعيّين‏:‏

- 1 - حوالة حالّة‏.‏

- 2 - وحوالة مؤجّلة‏.‏

ويمكن أيضاً أن تتنوّع الحوالة المقيّدة إلى أنواع فرعيّة‏:‏

أ - حوالة مقيّدة بدين خاصّ‏.‏

ب - حوالة مقيّدة بعين هي أمانة، كالوديعة‏.‏

ج - حوالة مقيّدة بعين مضمونة، كالمغصوبة‏.‏ هذا، وتوجد حالة خاصّة للحوالة لا تخرج عن هذين النّوعين، هي السّفتجة في بعض صورها‏.‏

والسّفتجة ورقة تكتب للمقرض في بلد ليستوفي نظير قرضه في بلد آخر اتّقاءً لخطر الطّريق المحتمل، لو أنّ صاحب المال سافر بماله إلى البلد الّذي يقصده، فيلتمس من يحتاج إلى المال هنا وله مال أو دين في البلد الآخر، فيقرضه المال هنا على أن يستوفيه هناك من وكيل المقترض، أو من مدينه في ذاك البلد‏.‏

ونظراً لأنّ بعض صور السّفتجة قرض محض مشروط الوفاء في بلد آخر، وبعضها يتوافر فيها معنى الحوالة، فقد أفرد لها بحث في آخر موضوع الحوالة‏.‏

أوّلاً‏:‏ النّوعان الأصليّان للحوالة

18 - قد يقيّد قضاء دين الحوالة بأن يكون من مال المحيل الّذي عند المحال عليه أو في ذمّته‏.‏ وقد لا يقيّد بذلك‏.‏

ففي الحالة الأولى، تكون الحوالة مقيّدةً، وفي الحالة الثّانية، تكون حوالةً مطلقةً‏.‏

وفي الحوالة المطلقة قد لا يكون للمحيل عند المحال عليه عين - بغصب أو إيداع أو نحوهما - أو لا يكون له في ذمّته دين بسبب ما - كمعاوضة أو إتلاف أو غيرهما - فيقبل الحوالة متبرّع لم تتوجّه عليه للمحيل أيّة حقوق‏.‏

وقد يكون شيء من ذلك لكن الحوالة أرسلت إرسالاً، ولم تقيّد بشيء من ذلك‏.‏

وإذن يمكن تفسير كلّ من الحوالة المطلقة والمقيّدة كما يلي‏:‏

19 - الحوالة المقيّدة‏:‏ هي الّتي تقيّد بدين للمحيل على المحال عليه، أو بعين له عنده، أمانةً كانت أم مضمونةً‏.‏ مثال ذلك‏:‏ أن يقول المدين لآخر‏:‏ أحلت فلاناً عليك بالألف الّتي لي في ذمّتك، فيقبل المحال عليه، أو يقول له‏:‏ أحلت فلاناً عليك بالألف الّتي له عليّ، على أن تؤدّيها إليه من الدّنانير الّتي أودعتكها‏.‏ أو على أن تؤدّيها إليه من الدّنانير الّتي اغتصبتها منّي، فيقبل المحال عليه، ويجيز المحال في الأحوال كلّها‏.‏

20 - والحوالة المطلقة‏:‏ هي الّتي لم تقيّد بشيء من ذلك، ولو كان للمحيل لدى المحال عليه شيء تمكن التّأدية منه‏.‏

مثال ذلك‏:‏ أن يرى رجل خير دائناً ومدينه يتشاجران فيقول للدّائن‏:‏ دينك عليّ، ولا شأن لك بهذا وإن لم يكن له عليّ شيء، فيقبل الدّائن‏.‏ أو يقول المدين لغاصبه - سواء أكانت العين المغصوبة باقيةً أم تالفةً - أحلت فلانًا عليك بالألف الّتي له عليّ ‏"‏ ولم يقل‏:‏ على أن تقتضيه ممّا أستحقّه عليك ‏"‏ فيقبل الغاصب، ويجيز المحال‏.‏

ومن الأمثلة ذات الأهمّيّة العلميّة‏:‏ أنّه إذا باع المدين الرّاهن العين المرهونة دون إذن من المرتهن، فإنّ هذا البيع لا يسلب حقّ المرتهن في حبس المرهون إلاّ أن يجيز هذا البيع فيكون عندئذ قد تنازل عن حقّه في حبسه بمقتضى الرّهن، أمّا إذا تمسّك المرتهن بحقّه ولم يجز البيع، فإنّ المشتري يتخيّر بين أن يصبر حتّى يفكّ الرّهن، أو يرفع الأمر إلى القاضي ليفسخ له البيع، بسبب العجز عن التّسليم‏.‏

فإذا آثر الانتظار فقد يطول أمده وحينئذ ربّما بدا له أنّ خير وسيلة لحلّ المشكلة أن ينقل الدّين على نفسه بطريق الحوالة، ثمّ يفكّ الرّهن بقضاء الدّين عن الرّاهن ويتسلّم المبيع المرهون، وبعد ذلك يرجع على الرّاهن بما دفع عن ذمّته إلى المرتهن‏.‏

ثانياً‏:‏ الأنواع الفرعيّة للحوالة

أنواع الحوالة المقيّدة

21 - تبيّن ممّا سلف في الحوالة المقيّدة، أنّها عند الحنفيّة - بالتّفصيل - أنواع ثلاثة‏:‏

أ - حوالة مقيّدة بدين خاصّ‏.‏

ب - حوالة مقيّدة بعين هي أمانة‏:‏ كالعاريّة الوديعة والعين الموهوبة - إذا تراضيا على ردّها، أو قضى القاضي به - أو المأجور بعد انقضاء مدّة الإجارة‏.‏

ج - حوالة مقيّدة بعين مضمونة‏.‏

والعين المضمونة عند الإطلاق - كما هنا - إنّما تنصرف إلى المضمونة بنفسها، أي الّتي إذا هلكت وجب مثلها، إن كانت مثليّةً، وقيمتها إن كانت قيميّةً - كالمغصوب، وبدل الخلع، والمهر، وبدل الصّلح عن دم العمد، والمبيع بيعاً فاسداً، والمقبوض على سوم الشّراء

‏"‏ والعين المضمونة بنفسها هذه ملحقة بالدّيون فتكفل ‏"‏‏.‏

أمّا العين المضمونة بغيرها، فإنّها لا يجري ضمانها على قواعد الضّمان العامّة، بل يكون لها ضمان خاصّ‏:‏ وذلك كالمبيع في يد البائع - ولو بعد امتناعه من تسليمه إلى المشتري، إذ لا يصير بذلك غاصباً - وكالرّهن في يد المرتهن، فإنّه إذا هلك غير مضمون بمثل ولا قيمة، لكن هلاك المبيع في يد البائع يسقط الثّمن عن المشتري، وبهلاك الرّهن يسقط ما يقابله من الدّين عن الرّاهن‏.‏ وما زاد من قيمته على الدّين يهلك عند الحنفيّة على حكم الأمانة، ولذا سمّي مضموناً بغيره‏.‏

أنواع الحوالة المطلقة

22 - الحوالة المطلقة نوعان‏:‏

أ - حوالة حالّة‏:‏

23 - وهي حوالة الطّالب بدين حالّ على المحيل‏:‏ إذ يكون الدّين حالّاً كذلك على المحال عليه‏.‏ لأنّ الدّين يتحوّل في الحوالة، بالصّفة الّتي كان عليها لدى المحيل، كما أنّ الكفيل يتحمّل ما على الأصيل، بأيّ صفة كان‏.‏

ب - حوالة مؤجّلة‏:‏

24 - وهي حوالة اشترط فيها أجل معيّن، أو كانت بدين مؤجّل على المحيل، أو المحال عليه وإن لم يصرّح فيها بالأجل كشرط‏.‏ إذ يكون المال على المحال عليه، إلى ذلك الأجل السّابق، أو الّذي استحدث بالشّرط، لأنّ الفرض في حالة الشّرط، أو العلم بالتّأجيل على المحال عليه أنّ الحوالة كذلك قبلت‏.‏ وفي حالة سبق الأجل في جانب المحيل إنّما يتحوّل الدّين بالوصف الّذي كان عليه، اعتباراً بالكفالة‏.‏

على أنّهما قد تفترقان في بعض جوانب الأجل‏:‏ ففي الكفالة، إذا أجّل الطّالب الدّين، ولم يضف الأجل إلى الكفيل، يصير الأجل مشروطاً للأصيل - حتّى لو مات الكفيل، يبقى الدّين على الأصيل مؤجّلًا‏.‏ ولو وقع ذلك في الحوالة، ولم يضف الأجل إلى المحال عليه - وبالأولى إذا أضافه - لا يصير الأجل مشروطاً في حقّ الأصيل - فلو مات المحال عليه مفلسًا عاد الدّين على الأصيل حالّاً‏.‏

ثمّ تغتفر في الأجل الجهالة اليسيرة‏.‏ فقد نصّوا على أنّه لو قبل الحوالة إلى الحصاد، لا يجبر على الأداء قبله‏.‏ وسواء هنا في لزوم التّأجيل دين القرض وغيره - وإن كان الأصل في دين القرض عدم لزوم التّأجيل فيه، إذ المقرض متبرّع، فلا يجبر على عدم المطالبة - فقد جاء في الكافي للحاكم الشّهيد ما خلاصته‏:‏ رجل مدين بألف قرضاً، ودائن بمثلها، له أن يحيل دائنه على مدينه إلى أجل معيّن كسنة‏.‏ ثمّ ليس له بعد ذلك، أن يأخذ مدينه بدينه، أو أن يبرّئه منه، أو يهبه له‏.‏

ومن جملة ما علّله به شارحه السّرخسيّ في مبسوطه‏:‏ إنّ حقّ الطّالب تعلّق بالمال المحال به، وذلك يوجب الحجر على المحيل عن التّصرّف فيه، وإلاّ بطل حقّ الطّالب‏:‏ لأنّ المحال عليه ما التزم الحوالة مطلقةً، وإنّما مقيّدةً بذلك المال، فإذا سقط لم تبق عليه مطالبة بشيء‏.‏ ألا ترى أنّ الحوالة لو كانت مقيّدةً بوديعة، فهلكت تلك الوديعة، بطلت الحوالة‏.‏ ولذا نقل عنه في جامع الفصولين‏:‏ إنّ الحيلة في تأجيل القرض أن يحال به الدّائن على ثالث، فيؤجّل ذلك الثّالث مدّةً معلومةً‏.‏ إذ هذا صحيح، ومن لوازمه ألاّ يطالب المحيل، لأنّ الحوالة مبرّئة من مطالبته، ولا المحال عليه قبل حلول أجله بسبب ما، ولو بموته أو إسقاطه‏.‏

ثالثاً‏:‏ أقسام الحوالة عند جمهور الفقهاء

25 - لا يوجد عند الجمهور هذا التّنويع للحوالة إلى مطلقة ومقيّدة‏.‏ وإن كان من الجائز - على المرجوح عند المالكيّة والشّافعيّة - حوالة على غير مدين - بشرط رضاه - تترتّب عليها أحكامها عندهم وفي مقدّمتها سقوط دين المحيل وبراءة ذمّته ‏"‏ بصورة نهائيّة غير موقوتة ‏"‏، فيصدق عليها أنّها حوالة مطلقة، وإن لم يسمّوها هم بهذا الاسم‏.‏

على أنّ ابن الماجشون - وهو صاحب هذا القول المرجوح عند المالكيّة - قد اشترط أن تقع الحوالة بلفظها وإلاّ فهي حمالة، أي ضمان ‏(‏كفالة‏)‏‏.‏

والّذي رجّحه المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، أنّ هذا من قبيل الضّمان، وليس من الحوالة في شيء، ولو استعمل لفظها‏.‏

ويفرّع المالكيّة على هذا الّذي رجّحوه قائلين‏:‏ لو أعدم - أي أفلس - المحال عليه لرجع المحال على المحيل - إلاّ أن يعلم المحال أنّه لا شيء للمحيل على المحال عليه - ويشترط المحيل براءته من الدّين، فلا رجوع له عليه‏.‏

وليس الإعدام، أي الفقر، شريطةً حتميّةً عندهم ليثبت حقّ الرّجوع، بل مثله الموت وكلّ سبب يتعذّر به استيفاء الحقّ من المحال عليه، كامتناع ذي سطوة‏.‏ وهذه طريقة أشهب، وعليها تعويلهم في هذا الحكم خلافاً لابن القاسم، فإنّه يرى عدم الرّجوع مطلقاً‏.‏

الحوالة على عين

26 - والحوالة على عين - أيّاً كان نوع العين - لا تعرف عند جمهور الفقهاء‏.‏ إذ هم جميعًا شارطون في المال المحال عليه أن يكون ديناً‏.‏

كما أطبق الحنفيّة وغيرهم على هذه الشّريطة في جانب المال المحال به‏.‏

على أنّ التّحقيق عند الحنفيّة أنفسهم يردّهم إلى وفاق الآخرين‏.‏ فقد قال السّرخسيّ‏:‏ حقيقة الحوالة هي المطلقة، فأمّا المقيّدة من وجه فتوكيل بالأداء والقبض‏.‏

حلول الحوالة وتأجيلها

27 - فيما يتعلّق بحلول الحوالة وتأجيلها عند جمهور الفقهاء سيأتي بيانه‏.‏

أركان الحوالة وشروطها

28 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا بدّ لوجود الحوالة من الآتي‏:‏

أ - الصّيغة‏.‏

ب - المحيل‏.‏

ج - المحال‏.‏

د - المحال عليه‏.‏

هـ - المحال به ‏"‏ دين المحال على المحيل ‏"‏‏.‏

كما ذهب جمهور الفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إلى أنّه لا بدّ لوجود الحوالة من وجود دين للمحيل على المحال عليه في الجملة‏.‏

ولم يعتبر الحنفيّة لوجود الحوالة وجود هذا الدّين‏.‏

ولكن الفقهاء اختلفوا في اعتبار ما سبق أركانًا فذهب الجمهور إلى اعتبارها كلّها أركاناً‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى اعتبار الصّيغة وحدها ركناً، أمّا المحيل والمحال والمحال عليه فهم أطراف الحوالة‏.‏ والمحال به هو محلّها‏.‏

المراد بالصّيغة

29 - الصّيغة تتألّف في الجملة من إيجاب وقبول‏.‏

المراد بالإيجاب عند الجمهور‏:‏ كلّ ما يدلّ على النّقل والتّحويل كأحلتك، وأتبعتك، وبالقبول‏:‏ كلّ ما يدلّ على الرّضا بهذا النّقل والتّحويل، نحو رضيت، وقبلت، وفعلت‏.‏ ومن القبول‏:‏ أحلني، أو لتحلني ‏(‏فاللّام الأمر‏)‏، على الأصحّ من خلاف فقهيّ عامّ، لدلالته على الرّضا، ويغني عن إعادته مرّةً أخرى بعد الإيجاب‏.‏

والإيجاب عند الحنفيّة‏:‏ هو قول الطّرف البادئ بالعقد، والقبول هو القول المتمّم له من الطّرف الآخر بأيّة ألفاظ تدلّ على معنى الحوالة‏.‏ ويقوم مقام الألفاظ كلّ ما يدلّ دلالتها، كالكتابة، وإشارة الأخرس المفهمة، ولو كان الأخرس قادراً على الكتابة فيما اعتمدوه‏.‏ فالإيجاب أن يقول كلّ واحد منهما‏:‏ قبلت، أو رضيت، أو نحو ذلك ممّا يدلّ على الرّضا‏.‏ ويكفي عند الحنفيّة أن يجري الإيجاب والقبول بين اثنين فحسب أيّاً كانا من الأطراف الثّلاثة لتنعقد الحوالة، لكنّها عندئذ قد تنعقد ناجزةً أو موقوفةً على رضا الثّالث بحسب كون الثّالث أيّ الثّلاثة هو‏:‏

أ - فإن جرى الإيجاب والقبول بين المحال والمحال عليه وكان الثّالث هو المحيل، انعقدت الحوالة ناجزةً دون توقّف على إجازته، بناءً على رواية الزّيادات وهي الصّحيحة، وخلافاً لرواية القدوريّ الّتي اشترطت رضاه، ولو خارج مجلس العقد‏.‏

ب - وإن كان الثّالث هو المحال عليه انعقدت موقوفةً على إجازته ولو خارج مجلس العقد‏.‏

ج - وإن كان الثّالث هو المحال، انعقدت موقوفةً أيضًا على إجازته ولو خارج مجلس العقد، أخذًا بمذهب أبي يوسف الّذي اعتمدته المجلّة ‏(‏م / 683‏)‏ تيسيراً على النّاس في معاملاتهم، وإن شرط أبو حنيفة ومحمّد قبوله في مجلس العقد، واعتبره شيوخ الحنفيّة المصحّح في المذهب‏.‏

تغيّر الحوالة بألفاظ معيّنة

30 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وأكثر المالكيّة إلى أنّه لا تقيّد بألفاظ معيّنة في عقد الحوالة، شأنها في ذلك كسائر العقود، إذ العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ‏.‏

ولذا قالوا‏:‏ إنّ الكفالة بشرط أن يبرأ الأصيل، حوالة، والحوالة بشرط ألاّ يبرأ كفالة فيتبع المعنى جريان أحكام الحوالة أو الكفالة، كما نصّ عليه في البحر‏.‏

فإذا اختلفت الأطراف المعنيّة ولا بيّنة‏:‏ أهي كفالة بشرط براءة الأصيل - أي حوالة معنىً - أم بدون شرط البراءة‏؟‏ فالمصدّق هو الدّائن الطّالب، لأنّ الأصل بقاء حقّه في مطالبة الأصيل، فلا ينتقل إلاّ بإقراره‏.‏ فتنعقد عندهم بكلّ ما يفيد معناها، كنقلت حقّك إلى فلان، أو جعلت ما أستحقّه على فلان لك بحقّك عليّ، أو ملّكتك الدّين الّذي عليه بحقّك عليّ، أو أتبعتك ديناك على فلان، أو اقبض ديني عليه لنفسك، أو خذ - أو اطلب - دينك منه‏.‏ وذهب بعض المالكيّة إلى أنّه يشترط في الصّيغة لفظ الحوالة، واعتمده خليل في مختصره، واشترط لفظه الحوالة دون بديل، وهو الّذي جرى عليه أبو الحسن من أئمّة المالكيّة‏.‏

31 - ولا تنعقد الحوالة عند الشّافعيّة بلفظ البيع مراعاةً للّفظ، وقيل‏:‏ تنعقد مراعاةً للمعنى، كالبيع بلفظ السّلم‏.‏

والمالكيّة يتوسّعون ما لا يتوسّع غيرهم، وهم بصدد صيغة الحوالة فيقولون‏:‏ إنّها تحصل ‏(‏ولو بإشارة أو كتابة‏)‏ ويطلقون ذلك إطلاقاً يتناول القادر - على النّطق - والعاجز، ثمّ يعقّبون بمقابل ضعيف عندهم - وإن اعتمده بعض متأخّريهم - قائلين‏:‏ وقيل‏:‏ لا تكفي الإشارة والكتابة إلاّ من الأخرس‏.‏

الصّيغة

32 - الصّيغة تدلّ على التّراضي ويتناول بحث التّراضي العناصر الثّلاثة التّالية‏:‏

1 - رضا المحيل‏.‏

2 - رضا المحال‏.‏

3 - رضا المحال عليه‏.‏

ويلاحظ أنّ رضا المحال والمحال عليه مختلف في اعتبارهما من شرائط الانعقاد أو من شرائط النّفاذ‏.‏

أوّلاً‏:‏ رضا المحيل

33 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى اشتراط رضا المحيل، وعلّلوه بأنّه مخيّر في جهات قضاء الدّين، فلا تتعيّن عليه جهة قهراً، كجهة الدّين الّذي له على المحال عليه‏.‏ 34 - واشترط الحنفيّة أن تقع الحوالة عن رضاً من المحيل لأنّها إبراء فيه معنى التّمليك، فيفسدها الإكراه كسائر التّمليكات‏.‏

وفي اشتراط رضاه اختلاف بين روايتي القدوريّ والزّيادات‏:‏ ووجه رواية القدوريّ الموجبة‏:‏ أنّ ذوي المروءات قد يأنفون من أن يحمل عنهم أحد شيئاً من ديونهم، فلا بدّ من رضاهم، ثمّ يطّرد الباب كلّه على وتيرة واحدة‏.‏ ووجه الرّواية الصّحيحة النّافية‏:‏ أنّ التزام الدّين من المحال عليه تصرّف في حقّ نفسه، والمحيل لا يلحقه به ضرر، بل فيه نفعه عاجلاً وآجلاً‏:‏ أمّا عاجلاً فلأنّه سيكفي المطالبة بدينه في الحال، وأمّا آجلاً فلأنّ المحال عليه لا يرجع عليه إن لم يكن بأمره قد قبل حوالة دينه، فلم يبق معنىً لاشتراط رضاه‏.‏

لكن كثيراً من محقّقي المذهب لا يرون أنّ هناك في الحقيقة خلافاً‏:‏ فإنّ القدوريّ لم يوجب رضا المحيل لنفاذ عقد الحوالة، بل ليسقط بالوفاء دين المحيل في ذمّة المحال عليه - إن كان - وليرجع هذا إلى المحيل بما أدّى عنه إن لم يكن مديناً له‏.‏ فإنّه لا رجوع على المحيل ولا سقوط لدينه ما لم يرض‏.‏

ثانياً‏:‏ رضا المحال

35 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى وجوب رضا المحال للمعنى نفسه الآنف في رضا المحيل، ولأنّ الدّين حقّه، فلا ينتقل من ذمّة إلى ذمّة إلاّ برضاه، إذ الذّمم تتفاوت يساراً وإعساراً، وبذلاً ومطلاً، وتتأثّر بذلك قيمة الدّين نفسه، ولا سبيل إلى إلزامه بتحمّل ضرر لم يلتزمه‏.‏

واشترط أبو حنيفة ومحمّد أن يكون هذا الرّضا في مجلس العقد، حتّى إذا كان غائباً عن المجلس ثمّ بلغه خبر الحوالة فأجازها، لم تنفذ الحوالة، لأنّها لم تنعقد أصلاً إذ أنّ رضا المحال عندهما ركن في انعقادها‏.‏ أمّا عند أبي يوسف فيكتفى منه بمجرّد الرّضا، أينما كان ولو خارج مجلس العقد، فيكون شريطة نفاذ‏.‏

وأمّا الحنابلة فلا يوجبون رضا المحال، إلاّ على احتمال ضعيف عندهم‏.‏ بل يجبر المحال على القبول، إذا كان المحال عليه مليئاً غير جاحد ولا مماطل‏.‏

وقال بعض الحنابلة‏:‏ يستغنى بتاتاً عن قبول المحال، فإن قبل فذاك، وإن لم يقبل فلا بأس، والحوالة نافذة برغمه‏.‏

قال صاحب الإنصاف‏:‏ في رواية عن الإمام أحمد‏:‏ لا يبرأ المحيل إلاّ برضا المحال‏.‏

فإن أبى أجبره الحاكم، لكن تنقطع المطالبة بمجرّد الحوالة‏.‏ وقيل‏:‏ يتوجّه أنّ للمحال مطالبة المحيل قبل إجبار الحاكم‏.‏ ومبنى الرّوايتين‏:‏ أنّ الحوالة هل هي نقل للحقّ أو تقبيض‏؟‏ فإن قلنا‏:‏ هي نقل للحقّ، لم يعتبر لها قبول‏.‏ وإن قلنا‏:‏ هي تقبيض، فلا بدّ من القبض بالقول، وهو قبولها‏.‏ فيجبر عليه المحال‏.‏ ا هـ‏.‏

واستدلّ الحنابلة بظاهر حديث أبي هريرة عند الجماعة‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مطل الغنيّ ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع»‏.‏ ويفسّره لفظ أحمد وابن أبي شيبة‏:‏ «ومن أحيل على مليء فليحتل»‏.‏ فقد أمر صلوات الله عليه الدّائن بقبول الحوالة أو الالتزام بمقتضاها، والأمر بأصل وضعه للوجوب، وليس هنا ما يصرفه عن هذا الأصل‏.‏

كما استدلّوا بالمعقول‏:‏ فإنّ الدّائن الّذي يهيّئ له مدينه مثل دينه عدّاً ونقداً من يد أخرى فيأبى أن يأخذه، ويصرّ على أن ينقده إيّاه مدينه بالذّات، لا يكون إلاّ متعنّتاً معانداً‏.‏

ثالثاً‏:‏ رضا المحال عليه

36 - ذهب جمهور الفقهاء الحنابلة والمالكيّة في المشهور عندهم والشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّه لا يشترط رضا المحال عليه لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم «من أحيل على مليء فليتبع» ولم يقل على مليء راض‏.‏

ولأنّ الحقّ للمحيل فله أن يستوفيه بغيره كما لو وكّل غيره بالاستيفاء‏.‏

وذهب الحنفيّة في المشهور عندهم إلى اشتراط رضا المحال عليه سواء أكان مديناً أم لا، وسواء أتساوى الدّينان أم لا، لأنّ النّاس يتفاوتون في تقاضي ديونهم رفقاً وعنفاً، ويسراً وعسراً، فلا يلزم من ذلك بما لم يلتزمه‏.‏

وقياساً على المحال فإنّ المحال عليه مثله في أنّه طرف في الحوالة لا تمام لها بدونه فليكن مثله في اشتراط رضاه‏.‏

اختلاف المتعاقدين في أنّ المقصود بالحوالة وكالة

37 - قد يختلف المحيل والمحال في حقيقة العقد الواقع بينهما‏:‏ هل كان حوالةً أو وكالةً عن المحيل بقبض الدّين من المحال عليه‏.‏

38 - وفي هذه المسألة عند الحنفيّة احتمالان‏:‏

أ - إمّا أن يختلفا في اللّفظ المستعمل بينهما نفسه‏:‏ هل كان لفظ الحوالة أو الوكالة‏؟‏

ب - وإمّا أن يتّفقا على أنّ اللّفظ المستعمل بينهما كان لفظ الحوالة ولكن المحيل يقول‏:‏ إنّه إنّما أراد بذلك وكالةً بقبض دين له على الثّالث، أمّا المحال فيدّعي أنّ المقصود بالحوالة معناها الظّاهر المتبادر الحقيقيّ وليس الوكالة‏.‏

ففي الحالة الأولى‏:‏ يكون من الواضح أنّ القول للمحيل في عدم الحوالة لأنّها عقد ملزم، فلا يثبت عليه إلاّ ببيّنة، إذ الأصل عدمه وعلى مدّعيه إثباته‏.‏

وفي الحالة الثّانية‏:‏ يقبل في القضاء زعم المحيل بيمينه أنّه إنّما أراد الوكالة، لأنّ لفظ الحوالة صالح لمعنى الوكالة أيضًا بطريق المجاز ومستعمل بمعناها في العرف الفقهيّ، كما وقع في كلام محمّد بن الحسن وغيره، ولا سيّما أنّ الأصل عدم الحوالة وبقاء حقّ المحيل ديناً، فإذا أنكر المحيل ولا بيّنة، لم يكن عليه إلاّ اليمين، لنصّ الحديث المشهور‏:‏ «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»‏.‏ ولا يكون استعمال لفظ الحوالة بمثابة إقرار من المحيل بدين عليه للمحال ما دام لفظها صالحاً لمعنى الوكالة‏.‏

وبهذا الأصل يتمسّك لقول محمّد - في رواية ابن سماعة - أنّ للمحيل أن يقبض المال في غيبة المحال، وأن ينهى عن دفعه إليه بدعوى أنّه حين أحاله إنّما أراد توكيله‏.‏

وإن كان الّذي رواه بشر - واعتمدوه ويعزى إلى أبي يوسف - خلاف ذلك، بناءً على أنّ تصديقه في دعواه هذه هو من قبيل القضاء على الغائب‏.‏

نعم إذا كان في صيغة التّعاقل نفسها - وراء ظاهر اللّفظ - ما يكذّب هذا الادّعاء، فلا سبيل إلى قبوله، ولذا ينصّون على أنّه إذا وقعت الحوالة بصيغة‏:‏ اضمن عنّي كذا من المال لفلان، كانت دعوى الوكالة كذباً مرفوضاً، لأنّ الصّيغة لا تحتملها‏.‏

39 - وقد ذهب بعض الحنفيّة إلى أنّ قبول قول المحيل بأنّ الحوالة كان المقصود بها وكالةً، وتعليله بأنّ كلمة الحوالة مستعملة في الوكالة، فلا يكون إقراراً بدين المحال، لا يستقيم إلاّ بناءً على أنّ كلمة الحوالة مستعملة في المعنيين ‏"‏ معنى الحوالة، ومعنى الوكالة ‏"‏ على سواء، لتكون من قبيل اللّفظ المشترك، ولا يكفي أن يكون استعمالها في الوكالة من قبيل المجاز المتعارف - إلاّ عند الصّاحبين - لأنّ الحقيقة مقدّمة على المجاز عند الإمام، ولذا تكلّف شمس الأئمّة السّرخسيّ فحمل المسألة على‏:‏ ما إذا ادّعى المحال أنّ ما على المحال عليه ليس إلاّ ثمن مال له هو، وأنّ المحيل كان وكيلاً عنه في بيعه‏.‏

فالدّين دينه هو، وقد وصل إليه حقّه‏.‏ وإذن يكون القول للمحيل، لأنّ أصل المنازعة وقع بينهما في ملك ذلك المال، واليد كانت للمحيل فالظّاهر أنّه له‏.‏

وعلّق عليه الكمال بن الهمام بقوله‏:‏ ‏"‏ ظاهره تخصيص المسألة بنحو هذه الصّورة ‏"‏، وليس كذلك بل جواب المسألة مطلق في سائر الأمّهات، والحقّ أن لا حاجة إلى ذلك بعد تجويز كون اللّفظ‏:‏ ‏"‏ أحلتك بألف ‏"‏ يراد به ألف للمحيل، لأنّ ثبوت الدّين على الإنسان لا يمكن بمثل هذه الدّلالة، بل لا بدّ من القطع بها من جهة اللّفظ أو دلالته، مثل‏:‏ له عليّ أو في ذمّتي، لأنّ فراغ الذّمّة كان ثابتًا بيقين فلا يلزم فيه ضرر شغل ذمّته إلاّ بمثله من اللّفظ، ومنه قوله‏:‏ اتّزنها، في جواب‏:‏ لي عليك ألف ‏"‏ للتّيقّن بعود الضّمير في اتّزنها على الألف المدّعاة بخلاف مجرّد ‏(‏قوله‏:‏ أحلتك‏)‏‏.‏

40 - ويترتّب على ذلك‏:‏

أ - أنّه إذا كان المحال قد قبض بالفعل دين الحوالة، الّتي أنكر المحيل حقيقتها، بدعوى أنّها وكالة، فإنّه يؤمر بردّ ما قبضه إلى المحيل، إذ قد سقط - بسقوط دعواه - حقّه فيه‏.‏

ب - إذا كان المحيل صادقاً في دعواه - وليس كاذبًا يريد الحيلة - فإنّ الحوالة لا يكون قد طرأ عليها أيّ تغيير، إلاّ بحسب ظاهر الحال، وهي إذن لم تنعقد من الأصل حوالةً حقيقيّةً، بل وكالة‏.‏

41 - رأي غير الحنفيّة‏:‏ الّذي قرّره الحنفيّة في هذه الحالة، هو قول المزنيّ عند الشّافعيّة، وقد اعتمدوه، لأنّ الأصل بقاء الدّين في محلّه، ولكن أبا العبّاس بن سريج منهم ينازع فيه، وعنده أنّ مدّعي الحوالة هو الّذي يصدّق بيمينه، لأنّ استعمال صيغة الحوالة بلفظها يؤيّده، فالظّاهر معه، كما لو تنازع اثنان على ملك دار، وهي في يد أحدهما، وسيأتي الفصل في الموضوع وفق القواعد المقرّرة ‏(‏ر‏:‏ ف / 42‏)‏‏.‏

وواضح أنّ حكم المسألة يبقى كما هو، إذا كان النّزاع منصبّاً على اللّفظ الّذي استعمل‏:‏ أكان لفظ الحوالة أم لفظ الوكالة‏.‏

والفرض أن لا بيّنة لأحدهما، وإلاّ عمل بها في هذه الصّورة الأخيرة لإمكانها، وهذا ممّا نصّ عليه الشّافعيّة، كما نصّوا على أنّ منكر الحوالة هو في معتمدهم الصّدق على كلّ حال - لأنّ الأصل معه - ولو كان منكرها وزاعم الوكالة هو المحال نفسه لأمر ما، كما لو تبيّن له إفلاس المحال عليه‏.‏ ومن أهمّ ما صرّحوا به أيضاً أنّ محلّ الخلاف إنّما هو فيما إذا كان المحيل مقرّاً بدين المحال، وإلاّ فلا يتّجه سوى تصديق المحيل، وللمحال تحليفه على نفي دينه، لأنّه، أي المحيل، متمسّك عندئذ بنفس الأصل الأوّل الّذي لا تتحقّق حوالة إلاّ بعد تحقّقه وهو كونه مديناً للمحال‏.‏

وكما وافق الشّافعيّة - في المعتمد لديهم - الحنفيّة في الأصل، وافقوهم في الاستثناء أيضًا - إذ هو ممّا لا يقبل النّزاع، فذكروا أنّه إذا كان في صيغة التّعاقد ما يكذّب المحيل - كما لو قال‏:‏ أحلتك بالمائة الّتي لك في ذمّتي على فلان مديني - فالقول قول المحال عندئذ، لأنّ هذا لا يحتمل غير الحوالة وكلّ ما قرّره الشّافعيّة، أصلاً واستثناءً ووفاقاً وخلافاً وترجيحاً، ذكره الحنابلة حذو القذّة بالقذّة‏.‏

42 - والقولان اللّذان ذكرهما الشّافعيّة يوجدان أيضاً عند المالكيّة‏.‏

فابن القاسم يرى رأي المزنيّ، وابن عبد الملك يرى رأي أبي العبّاس، وإن كان الّذي يوجد لكلّ منها إنّما هو نصوص جزئيّة قام أصحابهما بتخريج نظائرها عليها، وقد جرى خليل على الثّاني، ولكنّهم نقدوه وآثروا الأوّل‏.‏

ومن آثار هذا الخلاف‏:‏ فيما نصّ عليه الشّافعيّة والحنابلة حالات واحتمالات تختلف في الأحكام تبعًا لما إذا كان منكر الحوالة ومدّعي الوكالة هو المحيل أو المحال‏.‏

وتفصيل ذلك كما يلي‏:‏

43 - الحالة الأولى - حين يكون المحيل هو منكر الحوالة‏:‏

أ - فعند من يقولون بترجيح زعم مثبتها ‏(‏وهو المحال‏)‏ تثبت الحوالة بيمينه وتترتّب عليها آثارها، وفي طليعة هذه الآثار براءة المحيل، ومطالبة المحال عليه‏.‏

ب - وعند من يقولون بترجيح زعم منكرها ‏(‏وهو المحيل‏)‏ تنتفي الحوالة وتثبت الوكالة بيمينه، ثمّ تبرز بعد ذلك احتمالات ثلاثة‏:‏ لأنّ المحال إمّا أن يكون قد قبض المال من المحال عليه، أو لم يقبضه، وفي الحالة الأولى‏:‏ إمّا أن يكون المال باقياً عنده أو هالكاً‏.‏

44 - الاحتمال الأوّل‏:‏ أنّ المحال لم يقبض المال‏:‏

في هذه الحالة ينعزل الوكيل من الوكالة بإنكاره إيّاها، فلا يكون له الحقّ في القبض من المحال عليه، وهل يرجع بدينه على المحيل‏؟‏ الصّواب‏:‏ نعم، لأنّ المحيل ينكر الحوالة، وقيل‏:‏ لا يرجع، مؤاخذةً له بقول نفسه لأنّ مقتضى الحوالة الّتي يدّعيها براءة المحيل، وثبوت حقّه على المحال عليه - ولو قبضه المحيل منه - لأنّه في نظره وزعمه ليس إلاّ قبض ظالم ما ليس له بحقّ‏.‏

45 - الاحتمال الثّاني‏:‏ أنّ المحال قبض المال، وما زال عنده‏:‏

في هذه الحالة يكون على المحال ردّ ما قبضه إلى المحيل، وللمحيل استرداده منه، ثمّ يرجع هو على المحيل بدينه، لأنّه إن كان محالاً فقد استردّ منه المحيل ما قبضه على أساس الحوالة فعلى المحيل أن يفيه دينه، وإن كان وكيلاً فحقّه باق في ذمّة المحيل‏.‏

هكذا قالوا، مع تسليمهم بأنّه دائن، ولم يقولوا بالمقاصّة، لأنّ الّذي بيده عين والّذي له دين، والمقاصّة عندهم إنّما تكون بين دينين متساويين جنساً وقدراً وصفةً‏:‏ فليس لها هنا موضع‏.‏ نعم إن خشي ضياع حقّه كان له، بينه وبين اللّه، أخذ ما معه على سبيل الظّفر بالحقّ‏.‏ وهناك من يقول‏:‏ ليس للمحال حقّ الرّجوع بدينه، مؤاخذةً له بمقتضى قوله، لأنّه بإقراره بالحوالة مقرّ ببراءة ذمّة المحيل من هذا الدّين‏.‏

46 - الاحتمال الثّالث‏:‏ أنّ المحال قبض المال، ولكنّه هلك عنده‏:‏

فلا حقّ للمحيل على المحال، ولا للمحال على المحيل، سواء أكان التّلف بتفريط منه أم بدون تفريط‏.‏ فإن كان بتفريط، فلأنّه إمّا ماله قد تلف بيده، وذلك إذا كان في الواقع صادقًا في زعمه الحوالة، وإمّا مال لزمه ضمانه، فيثبت عليه مثل ما له عند المحيل ويتقاصّان‏.‏ وأمّا أن كان بغير تفريط، فلأنّ المحيل مقرّ بأنّ المال إنّما تلف في يد أمينه، أي وكيله بمقتضى دعواه، والفرض أن لا تعدّي‏.‏ وإن كان البغويّ من كبار الشّافعيّة، ينازع في هذا، بناءً على أنّ أخذ الوكيل لنفسه يوجب ضمانه ويقول‏:‏ إنّه يضمن لثبوت وكالته، كما أنّه، أي المحال، مقرّ بأنّه قد استوفى حقّه، وتلف عنده‏.‏

47 - الحالة الثّانية‏:‏ حين يكون المحال هو منكر الحوالة‏:‏

أ - فعند من يقولون بترجيح زعم مثبتها ‏"‏ وهو المحيل ‏"‏‏:‏ تثبت الحوالة بيمينه، وتترتّب عليها أحكامها، فيبرأ المحيل، ويطالب المحال عليه، ثمّ ما قبض منه يكون للمحال، لأنّا إذا نظرنا إلى جانب المحيل، فهذا هو مقتضى الحوالة الّتي أقرّ هو بها، وإذا نظرنا إلى جانب المحال، فإنّه ظافر بجنس حقّه الّذي يأبى المحيل تسليمه إليه‏.‏

ب - أمّا عند من يقولون بترجيح زعم نافيها ‏"‏ وهو المحال ‏"‏ فتثبت الوكالة بيمينه ويعتبر وكيلًا بالقبض، عن المحيل، كما أنّ المحيل في تمسّكه بأنّ العقد كان حوالةً يكون معترفاً بدين المحال في ذمّته‏.‏

ثمّ الاحتمالات بعد ذلك ثلاثة‏:‏ لأنّ المحال إمّا أن يكون قد قبض المال من المحال عليه، أو لم يقبضه، وفي الحالة الأولى‏:‏ إمّا أن يكون المال باقيًا عنده أو هالكاً‏.‏

48 - الاحتمال الأوّل‏:‏ أنّ المحال لم يقبض المال‏:‏

وفي هذه الحالة يأخذ المحال حقّه من المحيل، ثمّ يكون للمحيل مطالبة المحال عليه بدينه، لأنّ الواقع إن كان وكالةً - كما ثبت ظاهراً - فدينه ما زال في ذمّة مدينه لم يقبضه الوكيل بعد، وإن كان في الواقع حوالةً، فإنّ المحال لم يعمل بمقتضاها لأنّها اعتبرت في الظّاهر وكالةً، وبدلاً من أن يأخذ المحال حقّه من المحال عليه، أخذه من المحيل ظلماً وعدواناً، فيكون له - رغم إقراره بأنّ ما في ذمّة المحال عليه هو للمحيل - أن يأخذه لنفسه وفاءً بما أخذه المحال منه، كالظّافر بجنس حقّه، وهذا هو الّذي رجّحه ابن المقري من متأخّري الشّافعيّة والقاضي من الحنابلة‏.‏

وإن كان ثمّ من يمنعه من أخذه، وقوفاً عند مؤاخذته بإقراره هذا‏.‏

49 - الاحتمال الثّاني‏:‏ أنّ المحال قبض المال، وما زال عنده‏:‏

في هذه الحالة يكون له الحقّ في تملّك ما قبض‏.‏ لأنّه مع ثبوت الوكالة يعتبر ظافراً بجنس حقّه الّذي يأبى المحيل تسليمه إليه تمسّكًا بالحوالة الّتي تتضمّن إقرار المحيل له بدينه‏.‏

50 - الاحتمال الثّالث‏:‏ المحال قبض المال، ولكنّه هلك عنده‏:‏

وفي هذه الحالة - تفريعاً على الوكالة الّتي ثبتت - إن كان قد تلف بتفريط منه لزمه ضمانه، وثبت عليه مثل ما له في ذمّة المحيل، فيتقاصّان، وإن كان من غير تفريط، فقد هلك على صاحبه وهو المحيل، ويرجع هو بدينه عليه، وعلى كلّ حال يبرأ المحال عليه، بالدّفع إلى المحال، لأنّه إن كان محالاً، فذاك حقّه، وإن كان وكيلاً، فقد دفع إليه بمقتضى عقد الوكالة‏.‏

51 - تنبيه‏:‏ عدم تضمين المحال في هذه الحالة الأخيرة عندما يتلف المال بيده دون تفريط - ولها نظائر - مبنيّ على أنّه إذا انتفت الحوالة في هذا التّنازع المشروع ثبتت الوكالة، وقد عبّر الشّيخ أبو إسحاق الشّيرازيّ في المهذّب بذلك فعلاً‏:‏ فهو يقول في هذا الشّقّ من القضيّة ‏"‏ وإن قلنا بقول المزنيّ، وحلف المحال ثبت أنّه وكيل ‏"‏، كما عبّر به البغويّ في خلافيّته الآنفة الذّكر ‏(‏ر‏:‏ ف / 42‏)‏‏.‏

ولكن الجوينيّ يحكي وجهًا آخر بتضمين المحال، ويعلّله بأنّ الأصل فيما يتلف في يد إنسان من ملك غيره هو الضّمان، ولا يلزم من تصديقه في نفي الحوالة، ليبقى حقّه، تصديقه في إثبات الوكالة ليسقط عنه الضّمان‏.‏ كما إذا اختلف المتبايعان في قدم العيب وحدوثه، وصدّقنا البائع بيمينه في منع الرّدّ بذا العيب، ثمّ وقع الفسخ، بتحالف أو غيره، فإنّه لا يمكّن من المطالبة بأرش ذلك العيب، ذهاباً إلى أنّه حادث بمقتضى يمينه‏.‏

‏[‏ ولعلّ مثل هذا الملحظ هو الّذي حدا بالمتأخّرين من الشّافعيّة إلى العدول عن عبارتي الشّيرازيّ والبغويّ إلى مثل قولهم‏:‏ ‏"‏ وبالحلف تندفع الحوالة ‏"‏، ولكنّهم لم يعوّلوا على هذا الوجه، بل ولم يلتفتوا إليه بأكثر من هذه الإشارة - إن صحّ - أنّها مقصودة ومضوا في التّفريع على أساس ثبوت الوكالة ‏]‏‏.‏

مجلس العقد

51 م - ذهب المالكيّة في المشهور عندهم والشّافعيّة في الأصحّ إلى أنّ الحوالة تنعقد بالإيجاب من المحيل، والقبول من المحال‏.‏

ولا يكون قبولاً بمعناه المتبادر عند الإطلاق، بلا قرينة صارفة إلاّ في مجلس العقد وهو مجلس علم المحال بالإيجاب غير المرجوع عنه بكتابة أو غيرها‏.‏

ويجبر المحال على القبول عند الحنابلة إذا أحيل على مليء‏.‏

أمّا المحال عليه فلا يشترط رضاه، لا في العقد ولا خارجه، لأنّه مدين للمحيل، فلا شأن له بمن هو مكلّف بالتّأدية إليه أو إلى من يختاره‏.‏ لكن الإيجاب من المحيل كاف وحده عند الحنابلة، فهم يكتفون في مجلس العقد بإيجاب المحيل فقط‏.‏

ويشترط بعض المالكيّة حضور المحال عليه وإقراره، أو حضوره وعلمه‏.‏

واشترط ابن القاسم من المالكيّة حضور المحال عليه وإقراره أو حضوره وعلمه، ووافقه من المالكيّة طائفة كبيرة كابن يونس وابن عرفة وأبي الحسن، حتّى لقد استنبط ابن سودة في شرح التّحفة من اجتماع كلّ هؤلاء أنّ هذا الرّأي هو المعتمد، وبناءً عليه تفسخ الحوالة على الغائب‏.‏ وبالرّغم من ذلك فالّذي جرى عليه خليل والقرافيّ وابن سلمون - واشتهر عند المالكيّة - عدم اشتراط هذه الشّريطة وهو في الأصل قول ابن الماجشون وينسب إلى مالك نفسه، وعليه عامّة الموثّقين والأندلسيّين‏.‏ وهو قول من عدا المالكيّة من الفقهاء‏.‏

52 - وذهب الحنفيّة إلى أنّ شريطة الإيجاب والقبول أن يكونا بمجلس واحد هو مجلس العقد، وقد يسمّى‏:‏ محلّ الإيجاب، وقد عرفنا أنّ كلّاً من الابتداء والتّعقيب يمكن أن يكون من كلّ واحد من الأطراف الثّلاثة لكلّ حوالة، وبذلك تنعقد الحوالة إلاّ أنّها تكون ناجزةً أو موقوفةً، نحو ما أسلفناه ‏(‏ر‏:‏ ف / 29‏)‏‏.‏

وقد لخّصه صاحب النّهر من الحنفيّة - على طريقة أبي حنيفة ومحمّد - بقوله‏:‏ الشّرط قبول المحتال في المجلس، ورضا المحال عليه ولو غائباً‏.‏

الشّروط الّتي يشترطها الأطراف

53 - يشترط الحنفيّة كما سبق ‏(‏ر‏:‏ ف / 24‏)‏ في صيغة الحوالة عدم وجود شرط غير جائز، من مبطل، كالتّعليق والتّأقيت، أو مفسد كالتّأجيل إلى أجل مجهول جهالةً فاحشةً‏.‏ ففي جامع الفصولين‏:‏ إنّ تعليق التّمليكات والتّقييدات لا يجوز، فالتّمليك، كبيع وهبة وإجارة، وأمّا التّقييد فكعزل الوكيل وحجر المأذون ‏.‏

وهذا النّصّ ينطبق على الحوالة، لما فيها من معنى المعاوضة والتّقييد أيضاً، إذ كلّ من المحال والمحال عليه يلتزم بها التزامات جديدةً‏.‏

54 - أمّا التّأقيت، والتّأجيل إلى الأجل المجهول جهالةً فاحشةً‏:‏ فلأنّ التّأقيت ينافي طبيعة الحوالة - أعني نقل الدّين - فلو قيل الحوالة قابل لمدّة سنة واحدة، مثلاً، فلا حوالة أصلاً، ولأنّ التّأجيل بالأجل المجهول جهالةً فاحشةً يفضي إلى النّزاع المشكل، مثال ذلك‏:‏ أن يقول الملتزم‏:‏ قبلت حوالة الدّين الّذي لك على فلان، على أن أوديه إليك عند هطول المطر، أو عند هبوب الرّيح، وهذا شرط لا منفعة فيه لأحد فيلغو، وتكون الحوالة حالّةً بخلاف التّأجيل بالأجل المعلوم كغاية شهر كذا، أو المجهول جهالةً محتملةً كموسم حصاد القمح هذا العام، فإنّه تأجيل بأجل متعارف، ولا غرر فيه أصلًا، أو لا غرر يذكر‏.‏

وصرّح فقهاء الحنفيّة في الحوالة بأنّ تأجيل عقدها لا يصحّ، ولكن تأجيل الدّين فيها يصحّ، فلو قال لآخر‏:‏ ضمنت بما لك على فلان على أن أحيلك به على فلان إلى شهر، انصرف التّأجيل إلى الدّين لأنّ تأجيل عقدها لا يصحّ‏.‏

55 - ومقتضى قواعد المالكيّة الحكم بصحّة أن يشترط البائع على المشتري أن يحيل عليه دائنه، وهذا على ما قرّره أبو إسحاق التّونسيّ المالكيّ من الاكتفاء بأن يكون الدّين في الحوالة مقارنًا لثبوتها ولا يشترط أن يكون سابقًا عليها‏.‏

وعند الشّافعيّة أنّه لو شرط العاقد في الحوالة رهناً أو ضميناً فالمعتمد أنّه لا يجوز، وقالوا في خيار الشّرط‏:‏ أنّه لا يثبت في عقدها لأنّه لم يبن على المغابنة‏.‏

ويرى الحنابلة أنّ الحوالة لا يدخلها خيار وتلزم بمجرّد العقد، ويرون كذلك أنّه لو شرط على المحتال أن يؤخّر حقّه أو يؤخّر بعضه إلى أجل ولو معلوماً لم تصحّ الحوالة، لأنّ الحالّ لا يتأجّل بالتّأجيل‏.‏

أطراف الحوالة

أوّلاً‏:‏ المحيل وشرائطه

56 - يشترط في المحيل عدّة شرائط لصحّة العقد، وشريطة واحدة لنفاذه ‏(‏ر‏:‏ ف /94‏)‏‏.‏ فشرائط صحّة الحوالة في المحيل نوعان‏:‏

النّوع الأوّل‏:‏ شرائط تتعلّق بأهليّة المحيل

57 - أ - العقل‏:‏ يشترط في المحيل أن يكون عاقلاً، فلا تنعقد حوالة المجنون والصّبيّ اللّذين لا تمييز لديهما‏.‏ إذ العقل من شرائط أهليّة التّصرّفات كلّها ‏.‏

ب - نفاذ التّصرّفات الماليّة‏:‏ ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ الحوالة تصحّ من المحجور عليه لفلس بشريطتين‏:‏ إذن القاضي، وعدم ظهور دائن آخر‏.‏ وعليه بعض الشّافعيّة‏.‏ ولكنّهم ضعّفوه، لأنّ الحجر لحقّ الغرماء بعامّة، وقد يكون ثمّ دائن آخر في الواقع ونفس الأمر‏.‏ والرّأيان يردان في حوالة السّفيه بإذن وليّه، إلاّ أنّ القول بالجواز هنا في حالة الحجر للسّفه أقوى، حتّى لقد قطع به إمام الحرمين‏.‏

ويرى كثير من الفقهاء أنّ الإجازة اللّاحقة لتصرّف السّفيه كالإذن السّابق‏.‏

ومن هؤلاء الحنفيّة والمالكيّة‏.‏ فإذا كان الدّين على اثنين فأحالا به، وأحدهما نافذ التّصرّف والآخر بخلافه - أو كانا هما المحال عليهما معاً، وأحدهما غير نافذ التّصرّف - فيجري فيه الخلاف المعروف في نتيجة تفريق الصّفقة‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ مديونيّة المحيل للمحال

58 - صرّح المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بأنّ من شروط الحوالة، أن يكون المحيل مديناً للمحال ولو بدين حوالة سابقة، أو دين كفالة، أو بدين مركّب من هذا كلّه أو بعضه‏.‏ وعلّلوه بأن ليس من المتصوّر حوالة دين لا وجود له‏.‏

ويثبت الدّين بطرق الإثبات المقرّرة فقهاً،وينصّ المالكيّة على الاكتفاء بإقرار المحال بثبوته‏.‏ واشترط الحنفيّة أن يكون المحيل مديناً للمحال‏.‏ وإلاّ كانت الحوالة على مدين وكالةً بالقبض، أو هبة دين، أو بيع دين من غير من هو عليه، وهذه الهبة وهذا البيع باطلان عندهم‏.‏

ثانيًا‏:‏ المحال وشرائطه

59 - يشترط جمهور الفقهاء ‏"‏ الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ‏"‏ في المحال لانعقاد الحوالة أن يكون عاقلاً، لأنّ قبوله الحوالة شريطة أو ركن فيها، وغير العاقل ليس من أهل القبول، فلا يصحّ احتيال مجنون ولا صبيّ غير مميّز‏.‏

ولم يتعرّض الحنابلة لهذا الشّرط، لأنّهم لا يشترطون رضا المحال - إلاّ على احتمال ضعيف لهم - بل المحال عندهم يجبر على القبول إذا أحيل على مليء‏.‏

ثالثًا‏:‏ المحال عليه وشرائطه

60 - أنّ المحال عليه أجنبيّ على الأصحّ - عن عقد الحوالة عند أكثر منكري الحوالة المطلقة - وإذن فليس يشترط فيه شيء من هذه الشّرائط الّتي يذكرها الحنفيّة سوى مراعاة مصلحة القاصر، لأنّه عندهم ليس إلاّ محلّ استيفاء الحقّ كالدّار يكون فيها المتاع، أو الكيس تكون فيه النّقود‏.‏ ويشترط في المحال عليه عند الحنفيّة أن يكون متمتّعًا بأهليّة الأداء الكاملة، وذلك بأن تتوافر فيه الصّفتان التّاليتان‏:‏

الأولى‏:‏ الأهليّة

61 - أن يكون عاقلاً، لما قدّمناه في المحال، فلا تصحّ الحوالة على مجنون أو صبيّ لا تمييز له‏.‏ كما يشترط أن يكون بالغاً، فلا يصحّ من الصّبيّ قبولها بحال، قياساً على الكفالة، وما دام ليس في ذمّته ولا عنده للمحيل ما يفي بالدّين المحال به، لأنّ قبول هذه الحوالة حينئذ تبرّع ابتداءً، إن كانت الحوالة بأمر المحيل، وتبرّع ابتداءً وانتهاءً إن لم تكن بأمره، إذ لا يملك حقّ الرّجوع عليه في هذه الحالة الأخيرة، سواء بعد ذلك أكان الصّبيّ مأذوناً في التّجارة أم غير مأذون، بل وسواء قبوله بنفسه وقبول وليّه له، لأنّه من التّصرّفات الضّارّة، فلا يملكه الوليّ‏.‏ والتّقييد - بكونه ليس في ذمّته ولا عنده للمحيل ما يكفي - ليس في كلام الحنفيّة‏.‏ ولكن ابن عابدين استظهره في حاشيته على البحر فإذا اختلّ هذا القيد - بأن كان في ذمّته أو عنده للمحيل ما يكفي سداد دينه - فينبغي ألاّ يشترط بلوغه لأصل انعقاد الحوالة، بل لنفاذها، فتنعقد موقوفةً على إجازة وليّه إن كان دون البلوغ‏.‏

وعندئذ ينبغي أن تكون شريطة البلوغ هذه شريطة نفاذ مطلوبةً في المحال عليه بالنّسبة إلى الحوالة المقيّدة بالدّين الّذي عليه، لأنّ فيها معنى المعاوضة انتهاءً، حيث يقضى فيها دين بدين بطريق التّقاصّ، فتحتاج إلى إذن الوليّ أو إجازته‏.‏

أمّا إذا كانت الحوالة مطلقةً فإنّ بلوغ المحال عليه عندئذ شريطة انعقاد لا بدّ منها، لأنّها كما قال صاحب البحر هنا‏:‏ إن كانت بأمر المحيل كانت تبرّعاً ابتداءً، معاوضةً انتهاءً، وإن كانت بدون أمره كانت تبرّعاً ابتداءً وانتهاءً فهي من المضارّ الّتي لا يملكها على الصّغير وليّه كسائر التّبرّعات، فلا تصحّ من غير البالغ ولو بإذن وليّه أو إجازته‏.‏

وكون المحال عليه مدينًا للمحيل أو عنده مال له لا يمنع إطلاق الحوالة دون ارتباطها بالدّين أو المال الّذي للمحيل عنده، إلاّ أن يقال‏:‏ إنّها عندئذ تعقد مقيّدةً حكماً بهذا المال أو الدّين ولو صدرت بصيغة مطلقة، وتكون موقوفةً على إجازة الوليّ، فليتأمّل‏.‏

الثّانية‏:‏ قدرة المحال عليه على الوفاء بما التزم به

62 - يشترط الحنفيّة في المحال عليه أن يكون قادراً على تنفيذ الحوالة، فلو قبل الحوالة مقيّدةً بشرط الإعطاء من ثمن دار المحيل، فهي حوالة فاسدة، لأنّه لا يقدر على بيع دار ليست له‏.‏ فإن كان ثمّ إذن سابق من صاحب الدّار ببيعها صحّت الحوالة، لانتفاء المانع، لكنّه لا يجبر على البيع، وإن كان وجوب الأداء في الحوالة متوقّفاً عليه، فإذا باع الدّار مختاراً يجبر على الأداء، كما لو قبل الحوالة إلى الحصاد، فإنّه لا يجبر على الأداء قبله‏.‏ وكذا لو قبل الحوالة على أن يؤدّي من ثمن داره هو، فإنّه لا يجبر على الأداء حتّى يبيع مختاراً، لكن إن شرط قيامه بهذا البيع في صلب عقد الحوالة أجبر عليه، قياساً على الرّهن، إذا شرط فيه بيع المرهون عند عدم الوفاء، فإنّه يكون شرطاً ملزماً، لا يملك الرّاهن الرّجوع فيه‏.‏ هكذا جمع صاحب الظّهيريّة بين قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ إطلاق الإجبار، والثّاني‏:‏ إطلاق عدمه، فحمل الأوّل على حالة الاشتراط، والثّاني على عدمه‏.‏

ملاءة المحال عليه

63 - لم يشترط الحنفيّة، ولا الشّافعيّة، ملاءة المحال عليه‏.‏

ويرى المالكيّة أنّ حقّ المحتال يتحوّل على المحال، بمجرّد عقد الحوالة، وإن أفلس المحال عليه، أو جحد الدّين الّذي عليه بعد تمام الحوالة وسواء كان الفلس سابقاً على عقد الحوالة، أو طارئاً عليها إلاّ أن يعلم المحيل وحده بإفلاس المحال عليه، فإنّ حقّ المحال لا يتحوّل على ذمّة المحال عليه ولا تبرأ ذمّة المحيل بذلك‏.‏

ويرى الرّهونيّ اشتراط ملاءة المحال عليه للّزوم الحوالة إذا لم يرض المحال بالحوالة‏.‏ ويرى الخرشيّ بطلان الحوالة في حالة جهل المحال عدم ملاءة المحال عليه وعلم المحيل ذلك‏.‏

أمّا الحنابلة فيشترطون ملاءة المحال عليه للزوم الحوالة إذا لم يرض المحال بالحوالة، على معتمد الحنابلة، أو إذا جهل حال المحال عليه، على رواية عندهم، وينصّون على أنّ من قبل الحوالة على مليء بعدما أفلس كان رضاه معيبًا فلا يعتبر، بل يحقّ له فسخ الحوالة‏.‏ وقد اعتبر أحمد في المليء الّذي يجب قبول الحوالة عليه ملاءته بماله، وبقوله، وببدنه، أي أن يكون قادرًا على الوفاء، غير جاحد، ولا مماطل، كما هو المتبادر، وكما فهم ابن قدامة في المغني‏.‏ ولكن متأخّري الحنابلة على أنّ الملاءة بالقول تعني عدم الجحد وعدم المماطلة، ويفسّرون الملاءة بالبدن بإمكان إحضار المحال عليه إلى مجلس الحكم‏.‏ ولذا لا يجب عندهم على المحال قبول الحوالة على أبيه، دون رضاه، ولا على من في غير بلده، لأنّه لا يمكن إحضارهما إلى مجلس الحكم، وبالتّالي لا يجبر المحال على هذا القبول‏.‏ ولم يعتبروا في القدرة على الوفاء أن تكون ناجزةً، فذو المال الّذي لا تصل إليه يده الآن لأمر ما، هو مليء ما دام على ما سبق وصفه‏.‏

64 - وقال الحنفيّة إذا كان المحال وليّ قاصر كوصيّ يتيم، أو كان صغيراً مميّزاً، أجاز وليّه الإحالة، فإنّه يشترط أن يكون المحال عليه حينئذ أملأ من المدين الأوّل صيانةً لحقّ الصّغير، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ والصّغير بمثابة اليتيم‏.‏ لكن ابن عابدين في حواشيه على البحر نقل نصوصاً مذهبيّةً تنافيه‏:‏ وذلك إذ يقول - نقلاً عن كتاب أحكام الصّغار - ‏"‏ ذكر فخر الدّين في بيوع فتاواه‏:‏ الأب والوصيّ إذ قبلا الحوالة على شخص دون المحيل في الملاءة ‏"‏ - إن وجب - أي الدّين - بعقدهما جاز عند أبي حنيفة ومحمّد، ولا يجوز عند أبي يوسف، وإن لم يكن واجباً بعقدهما ‏(‏كالإرث‏)‏ لا يصحّ في قولهم‏.‏ وذكر صدر الإسلام أبو اليسر في باب الخلع من المبسوط - في حيلة هبة صداق الصّغيرة - أنّ الأب يحتال على نفسه شيئاً، فتبرأ ذمّة الزّوج من ذلك القدر، ولو كان الأب مثل الزّوج في الملاءة فينبغي أن تصحّ أيضاً، وقد اكتفى ابن نجيم في البحر بحكاية القولين عند التّساوي في الملاءة‏.‏

وصرّح الشّافعيّة بصحّة احتيال وليّ القاصر بشريطة واحدة‏:‏ أن تقتضي ذلك مصلحة القاصر نفسه، أخذًا من نصّ التّنزيل الحكيم‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ‏}‏ دون تقييد بأيّ قيد آخر‏.‏ ولذا أبطلوا احتياله على مفلس، علم إفلاسه أم جهل، واحتياله بدين موثّق عليه برهن أو ضمان، لما في انفكاك الوثيقة من الضّرر البيّن‏.‏

وقد سئل السّيوطيّ عن رجل له على رجل دين، فمات الدّائن وله ورثة، فأخذ الأوصياء من المدين بعض الدّين، وأحالهم على آخر بالباقي، فقبلوا الحوالة وضمن لهم آخر فمات المحال عليه، فهل لهم الرّجوع على المحيل أم لا‏؟‏ فأجاب - يطالبون الضّامن وتركة المحال عليه - فإن تبيّن إفلاسهما تبيّن فساد الحوالة، لأنّها لم تقع على وفق المصلحة للأيتام، فيرجعون على المحيل‏.‏

ومن أمثلة المصلحة أن يكون المحيل بمال اليتيم فقيراً، أو مماطلاً، أو مخوف الامتناع بسطوة، أو هرب أو سيّئ القضاء على أيّة صورة، والمحال عليه بعكس ذلك كلّه، فتكون الحوالة من مصلحة القاصر‏.‏

إمكان إحضار المحال عليه مجلس الحكم

65 - تفرّد بهذه الشّريطة الحنابلة، وقد فسّر الزّركشيّ ‏(‏في شرح الخرقيّ‏)‏ القدرة بالبدن - في صدد بحث المليء الّذي يجبر المحال على إتباعه - بإمكان حضوره لمجلس الحكم‏:‏

أ - فلا يصحّ عندهم أن يحيل ولد على أبيه إلاّ برضا الأب، لأنّه لا يملك طلب أبيه‏.‏

قال ابن نصر اللّه‏:‏ هذه المسألة لم يذكرها أحد ممّن تقدّم من الأصحاب‏.‏

وظاهره صحّة الحوالة على أمّه ولو بغير رضاها‏.‏

ب - كما لا يلزم بقبول الحوالة على أبيه ‏(‏أي أب المحال‏)‏‏.‏

ج - ولا يلزم المحال بقبول الحوالة على من في غير بلده‏.‏

د - ولا يلزم المحال كذلك بقبول الحوالة على ذي شوكة‏.‏

مديونيّة المحال عليه للمحيل عند من لا يجيز الحوالة المطلقة

66 - لا يشترط الحنفيّة هذه الشّريطة، لإجازتهم الحوالة المطلقة، ومن فروع هذا الأصل ما نقلوه في الهنديّة عن المحيط ونصّه‏:‏ لو أنّ مسلماً باع من مسلم خمراً بألف درهم، ثمّ إنّ البائع أحال مسلماً على المشتري حوالةً مقيّدةً - بأن قال‏:‏ أحلت فلاناً عليك بالألف الّتي لي عليك - ثمّ اختلفوا‏:‏ فقال المحال عليه ‏(‏وهو المشتري‏)‏‏:‏ الألف كان من ثمن خمر، وقال المحيل ‏(‏وهو البائع‏)‏‏:‏ كان من ثمن متاع، فالقول قول البائع المحيل، فإن أقام المحال عليه بيّنةً على المحيل بذلك قبلت بيّنته‏.‏ وإن لم تكن الحوالة مقيّدةً بل كانت مطلقةً - بأن قال البائع للمشتري‏:‏ أحلت فلاناً عليك بألف درهم - لا تبطل الحوالة، وإن أثبت المشترى على المحيل أنّ الألف الّتي عليه كانت ثمن خمر‏.‏

أمّا غير القائلين بالحوالة المطلقة فيشترطون في المحال عليه أن يكون مديناً للمحيل بدين الحوالة‏.‏

67 - والّذي يموت وهو مدين تظلّ ذمّته مشغولةً بدينه حتّى يؤدّى عنه، فإن لم تكن له تركة لا يسقط دينه من ذمّته ما لم يتبرّع متبرّع بقضاء دينه، وعلى هذا يكون لدائنه بعد موته أن يحيل بدينه عليه، لا على تركته، لأنّها من ناحية ليست شخصاً، ولا تحقّق للحوالة إلاّ على شخص يسمّى محالاً عليه، ومن ناحية أخرى هي إمّا عين، ولا تصحّ الحوالة على عين عند غير الحنفيّة، وإمّا دين له وهذا ينتقل للوارث، وعليه الوفاء ممّا ورث أو من غيره‏.‏

أمّا الأصل المقرّر من أنّ ذمّة الميّت تخرب بموته - أو بعبارة أخرى‏:‏ إنّ الميّت لا ذمّة له - فإنّما هو بالنّسبة إلى المستقبل، لا الماضي‏.‏ هكذا نصّ الشّافعيّة‏.‏

وهو ظاهر مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏.‏ ودين المحيل أعمّ من أن يكون دين حوالة، أو ضمان، أو غيرهما ‏(‏ر‏:‏ ف / 58‏)‏‏.‏

ومثله في هذا التّعميم الدّين الّذي يحال عليه في الحوالة المقيّدة‏.‏

ومن المسائل الواردة تفريعاً على هذا الأصل‏:‏ ما إذا أقرض شخص اثنين مائة دينار - على كلّ منهما خمسون - وتضامنا، ثمّ أحال على أحدهما بخمسين ديناراً، هل تنصرف الحوالة إلى الخمسين الأصليّة الّتي عليه - حتّى ينفكّ رهنها إن كان فيها رهن - أم توزّع عليها وعلى الخمسين الأخرى الّتي ضمنها عن رفيقه، أم يرجع إلى إرادة المحيل‏؟‏ رجّحوا الرّجوع إلى إرادة المحيل، فإن لم تكن له إرادة، كان بالخيار يصرفها إلى ما شاء من ذلك بإرادة جديدة محدثة، هكذا نصّ الشّافعيّة‏.‏

محلّ الحوالة وشرائطه ‏"‏المال المحال به والمال المحال عليه‏"‏

يتفرّع الكلام في نوعيّة المال المحال به والمال المحال عليه على النّحو التّالي‏:‏

1 - حوالة الدّين‏.‏

2 - حوالة العين‏.‏

3 - حوالة المنفعة‏.‏

4 - حوالة الحقّ‏.‏

أوّلاً‏:‏ حوالة الدّين

68 - لا خلاف في جواز أن يكون المال المحال به ديناً‏.‏

وكذلك المال المحال عليه - عند من يشترط وجوده - فلا خلاف في جواز أن يكون ديناً‏.‏

ثانياً‏:‏ حوالة العين

69 - الحوالة بعين - مطلقةً كانت أو مقيّدةً - لا تصحّ، إذ لا يتصوّر فيها النّقل الحكميّ‏.‏ أمّا الحوالة على العين - أي في الحوالة المقيّدة - أيّاً كان نوع العين، فلا تعرف عند غير الحنفيّة‏.‏ إذ غير الحنفيّة جميعاً شارطون في المال المحال عليه أن يكون ديناً‏.‏

فالعين لا تصحّ الحوالة عليها، سواء أكانت أمانةً أم مضمونةً، كوديعة، ومال مضاربةً أو شركةً، ومرهون بعد فكاكه، وموروث، وباق في يد وليّ بعد رفع الحجر عن قاصره، وعاريّة، ومغصوب، ومأخوذ على سوم الشّراء، ومقبوض بعقد فاسد‏.‏

ثالثاً‏:‏ حوالة المنفعة

70 - لا تصحّ كذلك، إذ المنفعة كالعين، لا يتصوّر فيها النّقل الحكميّ‏.‏

أمّا الحوالة على المنفعة فلم نجد في نصوص الفقهاء ما يشعر بجواز كونها مالاً محالاً عليه‏.‏ والظّاهر أنّ ذلك لكون المنافع الّتي يستحقّها إنسان بسبب ما، إنّما تستوفى شخصيّاً من قبل صاحبها، وهي دائماً من غير جنس الدّين المحال به‏.‏

رابعاً‏:‏ حوالة الحقّ

لا تصحّ كذلك حوالة الحقّ‏.‏ وقد نصّ الفقهاء على أنّ الحوالة إنّما تكون بدين‏.‏

شرائط المال المحال به والمحال عليه

أوّلاً‏:‏ كون المال المحال به لازماً

71 - يشترط في المال المحال به عند الحنفيّة أن يكون ديناً لازماً‏.‏

قياساً على الكفالة‏:‏ بجامع أنّ كلاً من الكفالة والحوالة عقد التزام بما على مدين‏.‏

فالأصل أنّ كلّ دين تصحّ به الكفالة تصحّ به الحوالة وما لا فلا‏.‏

ومقتضى ذلك ألاّ تصحّ حوالة الزّوجة بنفقتها المفروضة - بالقضاء أو بالتّراضي - غير المستدانة، لأنّها دين ضعيف يسقط بالطّلاق وبموت أحد الزّوجين‏.‏ لكنّهم نصّوا على صحّة الكفالة بها استحساناً‏.‏ ومن قواعدهم أنّ كلّ دين تصحّ كفالته تصحّ حوالته، ما لم يكن مجهولًا‏.‏ وإذن فتصحّ حوالة دين النّفقة هذا، بل تصحّ بالنّفقة غير المفروضة - رغم أنّها تسقط بمضيّ شهر - إذا تمّت الحوالة قبل سقوطها، وإلاّ فلا تصحّ، لأنّهم كذلك قالوا في الكفالة بها، وأوّلوا به قول من نفى صحّة الكفالة بها، معلّلاً بأنّها ليست ديناً أصلاً‏.‏

أمّا مهر الزّوجة فدين قويّ صحيح يصدق عليه أنّه لا ينقطع استمرار وجوبه إلاّ بالأداء أو الإبراء، وإن أمكن أن يعرض له ما يبطل حكم العقد نفسه، كالطّلاق المنصّف للمهر قبل الدّخول فتصحّ الحوالة بالمهر بلا نزاع‏.‏

وأمّا دين الزّكاة فليس دينًا حقيقةً بالمعنى الخاصّ من كلّ وجه - ولذا لا يستوفى من تركة المتوفّى - فلا تصحّ الحوالة به‏.‏ وهذا كلّه عند الحنفيّة، أمّا غيرهم فلا يشترطون اللّزوم بإطلاق الفقهاء عدا المالكيّة، وبعض الشّافعيّة، وبعض الحنابلة‏.‏

وممّا فرّعه المالكيّة على اشتراط اللّزوم أنّ الحوالة لا تصحّ بالدّين الّذي يستدينه صبيّ أو سفيه ويصرفه فيما له عنه غنًى، لأنّ الوليّ لا يقرّه‏.‏

والّذي اعتمده الشّافعيّة، أنّ الشّرط هو أن يكون الدّين لازماً، أو آيلاً إلى اللّزوم بنفسه‏:‏ فاللّازم هو الّذي لا خيار فيه، والآيل إلى اللّزوم كالثّمن في مدّة الخيار، لأنّ الأصل في البيع لزوم الثّمن، وأنّ الخيار عارض في طريق اللّزوم، وبزوال العارض يعود الأصل تلقائيّاً‏.‏ ثمّ بمجرّد الحوالة بالثّمن في مدّة الخيار يبطل خيار الطّرفين، لأنّ تراضيهما بالحوالة إجازة للعقد الّذي بنيت عليه،ولأنّ بقاء الخيار في الثّمن ينافي اللّزوم الّذي في طبيعة عقد الحوالة‏.‏ وعلى هذا فإنّ الجعل المشروط للعامل في الجعالة، لا تصحّ الحوالة به عند الشّافعيّة قبل تمام العمل، لأنّه لم يلزم بعد، وقد لا يلزم قطّ، ثمّ هو إذا لزم فليس لزومه بنفسه، بل بواسطة العمل‏.‏

أمّا الكثرة الغالبة من الحنابلة فقد جروا على عدم اعتبار هذه الشّريطة أصلاً‏.‏ ولذا فهم مصرّحون بصحّة الحوالة بمال الكتابة، وبجعل العامل في الجعالة حتّى قبل الشّروع في العمل‏.‏ ومنهم من يضيف إيضاحاً لوجهة نظرهم أنّ الحوالة بمنزلة الوفاء‏.‏

وكذلك يجيزون الحوالة بالثّمن في مدّة الخيار، بل هذا أولى لأنّه آيل إلى اللّزوم‏.‏

ثانياً‏:‏ كون المال المحال به أو عليه يصحّ الاعتياض عنه

أ - المال المحال به‏:‏

72 - اشترط الشّافعيّة صحّة الاعتياض عن المال المحال به، ورأوا أنّها تغني عن شريطة اللّزوم أو الأيلولة إليه‏.‏ فما لا يصحّ الاعتياض عنه - كالمسلم فيه، وكلّ مبيع قبل قبضه، ودين الزّكاة - لا تصحّ الحوالة به برغم لزومه‏.‏

والمالكيّة، وجماهير الحنابلة، يصرّحون بهذه الموافقة، كلّ على طريقته‏.‏

وممّا يستدلّ به لعدم صحّة الاعتياض عن المسلم فيه حديث أبي سعيد أنّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره» لكن قالوا إنّ في إسناده عطيّة بن سعد العوفيّ، قال المنذريّ‏:‏ لا يحتجّ بحديثه، ويغني عنه النّهي الثّابت عن بيع ما لم يقبض‏.‏

وقد نصّ بعض الحنفيّة على صحّة ضمان المسلم فيه، ومعنى ذلك صحّة الحوالة به أيضاً، إذ من قواعدهم أنّ كلّ دين صحّ ضمانه صحّت حوالته ما لم يكن مجهولاً‏.‏

وصرّح به السّرخسيّ في المبسوط، كما صرّح به بعض الحنابلة تنزيلاً له منزلة الموجود لصحّة الإبراء منه‏.‏

لكن الشّافعيّة وموافقيهم يفرّقون في دين السّلم من حيث تصحيحهم ضمانه دون الحوالة به بأنّ دين السّلم لا يصحّ الاعتياض عنه، وأنّ الحوالة اعتياض، لأنّها بيع بخلاف الضّمان‏.‏ وظاهر أنّ كلّ من يجيز أخذ القيمة عن الزّكاة، لا يسلّم بهذا التّعليل ‏"‏ عدم صحّة الاعتياض ‏"‏ لمنع الحوالة بدين الزّكاة، فالّذي لا يرى علّةً مانعةً أخرى يصرّح بجواز الحوالة به‏.‏

ومن الشّافعيّة أنفسهم من يصرّح أيضاً بصحّة الحوالة بدين الزّكاة،على أنّها استيفاء لا بيع‏.‏ وقد تقدّم أنّ الثّمن في مدّة الخيار تصحّ الحوالة به عند كثيرين، كالشّافعيّة والحنابلة، لأنّ الحوالة متسامح فيها استثناء لأنّها إرفاق كما تقدّم‏.‏

73 - ولاعتبار هذه الشّريطة نصّ المالكيّة - خلافاً لأشهب - على امتناع أن يكون الدّينان المحال به والمحال عليه طعامين من بيع ‏(‏سلم‏)‏‏.‏

بل هم يقتصرون على هذا القدر في صياغة هذه الشّريطة، لأنّ الّذي يمتنع عندهم بيعه قبل قبضه إنّما هو طعام المعاوضة لا غير‏.‏

ومقتضى هذه العلّة أن تمتنع عندهم أيضاً الحوالة بدين على دين، وأحدهما طعام من بيع والآخر من قرض‏.‏ وهذا هو الّذي قرّره أبو الوليد بن رشد‏.‏

وقد جرى عليه خليل في البيوع، ولكنّه جرى هنا في الحوالة على عدم امتناع هذه الصّورة، متى كان أحد الدّينين حالّاً - كما حكي عن مالك نفسه، وعليه عامّة أصحابه عدا ابن القاسم - ركوناً إلى قول ابن يونس‏:‏ إنّ هذا هو الأصوب، تغليباً لجانب الدّين الآخر الّذي ليس بطعام معاوضةً‏.‏ أمّا ابن القاسم فلم يصحّحها إلاّ بشريطة حلول الدّينين كليهما فهو تنزيل للحلول منزلة القبض‏.‏

ب - المال المحال عليه‏:‏

74 - الّذين اشترطوا صحّة الاعتياض عن المال المحال عليه هم الّذين اشترطوا مثلها في المحال به، فعلى ما هناك لا تصحّ الحوالة برأس مال السّلم، وعلى ما هنا لا تصحّ الحوالة عليه وكذا المسلم فيه، وكلّ مبيع قبل قبضه، ودين الزّكاة وإن كان عند الحنابلة في كلّ من دين السّلم المسلم فيه، ورأس ماله وجه بصحّة الحوالة عليه وبه‏.‏

وواضح بناء هذه الشّريطة على أنّ الحوالة بيع وقد فرغنا من ذلك قبلاً ‏(‏ر‏:‏ ف / 11‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ كون المال المحال به أو عليه مستقرّاً

أ - المال المحال به‏:‏

75 - الدّين المستقرّ هو الّذي لا يتطرّق إليه انفساخ بتلف مقابله، أو فواته بأيّ سبب كان كتعذّر المال المسلم فيه في عقد السّلم‏.‏

فالمهر قبل الدّخول وقبل الموت، والأجرة قبل استيفاء المنفعة، أو قبل مضيّ المدّة، والثّمن قبل قبض المبيع، وما شاكل ذلك، كلّها ديون لازمة يصحّ الاعتياض عنها، ولكنّها غير مستقرّة لأنّها عرضة للسّقوط بفوات مقابلها، كردّة الزّوجة، وموت الأجير أو المستأجر، وتلف المبيع فلا تصحّ الحوالة بها، وبالأولى إذا اختلت شريطة أخرى، كالثّمن في مدّة الخيار، لانتفاء لزومه‏.‏ وهذه الشّريطة يجزم بها كثير من الحنابلة وإن لم يكونوا جمهورهم، على أنّ بعضهم يدّعي أنّه الأشهر عندهم‏.‏

ب - المال المحال عليه‏:‏

76 - لم يصرّح باشتراط استقراره سوى الحنابلة أيضاً نقلاً عن نصّ أحمد، وفي التّفريع على ذلك يقول ابن قدامة‏:‏ دين السّلم ليس بمستقرّ، لكونه بعرض الفسخ، لانقطاع المسلم فيه‏.‏ ثمّ يقول‏:‏ وإن أحالت المرأة على زوجها بصداقها قبل الدّخول لم يصحّ، لأنّه غير مستقرّ، وإن أحالها الزّوج به صحّ، لأنّ له تسليمه إليها، وحوالته به تقوم مقام تسليمه، وإن أحالت به بعد الدّخول صحّ لأنّه مستقرّ، وإن أحال البائع بالثّمن على المشتري في مدّة الخيار لم يصحّ في قياس ما ذكر، وإن أحاله المشتري به صحّ، لأنّه بمنزلة الوفاء، وله الوفاء قبل الاستقرار‏.‏

ويلحظ هنا أنّ ابن قدامة في كلامه هذا يجري على عدم التّفريق بين الدّين غير اللّازم كمال الكتابة، والثّمن في مدّة الخيار، وبين الدّين اللّازم غير المستقرّ كدين السّلم، والمهر قبل الدّخول، كما أنّه جرى على عدم اشتراط الاستقرار إلاّ في الدّين المحال عليه دون المحال به، فصحّح إحالة الزّوج لزوجته بمهرها قبل الدّخول، ومنع الإحالة منها عليه، لأنّ له الإحالة به حيث يصحّ منه التّسليم‏.‏ ومع ذلك ففي الحنابلة من ينازع في اعتبار هذه الشّريطة، فالمجد بن تيميّة في ‏"‏ المحرّر ‏"‏ لم يستثن من الدّيون الّتي تصحّ الحوالة بها وعليها سوى دين السّلم - فمنع الحوالة به وعليه - وهذا الّذي استثناه منازع في منعه عندهم‏:‏ فقد حكى صاحب الإنصاف صحّة الحوالة بدين السّلم وعليه مطلقاً‏.‏

رابعاً‏:‏ كون المال المحال عليه ناشئاً عن معاوضة ماليّة

77 - وهذه الشّريطة شريطة لزوم‏.‏ فالّذي يخالع زوجته على مال، ثمّ يحيل على هذا المال، فتموت الزّوجة ولو موسرةً قبل أن يقبضه المحال، أو تفلس - كما استظهروه - يكون للمحال الرّجوع عليه بدينه‏.‏ هذه حوالة صحيحة ولازمة ابتداءً، ولكنّها قد تتحوّل عن هذا اللّزوم كم رأينا‏.‏ هكذا قرّره ابن الموّاز من المالكيّة‏.‏

خامساً‏:‏ كون المال المحال به أو عليه معلوماً

أ - المال المحال به‏:‏

78 - اشترط الفقهاء هذه المعلوميّة وذلك لما في الجهالة من الغرر المفسد لكلّ معاوضة، والحوالة لا تخلو من معنى المعاوضة، كما سلف، فلا تصحّ الحوالة بمجهول، كالحوالة بما سيثبت على فلان‏.‏ ولا نزاع في هذه الشّريطة، سواء أقلنا‏:‏ إنّ الحوالة اعتياض، أم قلنا إنّها استيفاء، لأنّ المجهول يمتنع الاعتياض عنه لما فيه من الغرر، كما يتعذّر استيفاؤه وإيفاؤه لما يثيره من نزاع مشكل يحتجّ فيه كلّ من الخصمين بالجهالة احتجاجاً متعادلاً حتّى لو كانت على شخص ما ديون كثيرة لا يعلم مقدارها، فقال لدائنه‏:‏ أحلتك على فلان بكلّ ما لك عليّ، لم تصحّ الحوالة‏.‏

79 - وكثيرون يحدّدون بوضوح كيف يكون المال معلوماً هنا‏.‏

ومن هؤلاء الشّافعيّة والحنابلة إذ يقولون‏:‏ كلّ ما لا يصحّ السّلم فيه لا تصحّ الحوالة به‏:‏ فهم إذن يشرطون معلوميّة قدره كمائة ثوب، ومعلوميّة جنسه، كقطن أو صوف، ومعلوميّة صفاته الّتي تختلف باختلافها الأغراض أختلافاً بيّناً، أي صفاته الضّابطة، أو كما قالوا‏:‏ ‏"‏ صفاته المعتبرة في السّلم ‏"‏ كالطّول والعرض، والرّقّة، والصّفاقة، والنّعومة والخشونة، واللّون، وما إلى ذلك‏.‏

وذلك يعني عدم صحّة الحوالة بإبل الدّية، لأنّها لا تعلم إلاّ بالسّنّ والعدد وهذا لا يكفي لضبطها المعتبر في السّلم، وهذا هو الّذي اعتمده فيها الشّافعيّة وأبو الخطّاب من الحنابلة، وإن كان هنالك من يقول بصحّة الحوالة بها وعليها، كما لو كان لرجل، وعليه، خمس من الإبل أرش موضحة، فيحيل بهذه على تلك، وإلى هذا ذهب القاضي من الحنابلة، وهو قول للشّافعيّ نفسه، اكتفاءً بالعلم بسنّها وعددها، فليس الضّبط بالصّفات المطلوبة في السّلم إذن بحتم ليتحقّق معنى العلم بالمحال به، ولحسم ما عساه ينشأ من نزاع يعتبر أقلّ ما يقع عليه الاسم في السّنّ والقيمة وسائر الصّفات، كما قرّره القاضي من الحنابلة ‏"‏ وإن كان قياس كلام الشّافعيّة في الضّمان أن يراعى فيما وراء السّنّ والعدد حال غالب إبل البلد ‏"‏‏.‏

ب - المال المحال عليه‏:‏

80 - يصرّح الشّافعيّة والحنابلة باشتراط معلوميّة الدّينين ‏"‏ المحال به، والمحال عليه ‏"‏ لدى المتعاقدين المحيل والمحال‏.‏ ولم نجد في كلام فقهاء الحنفيّة والمالكيّة تصريحًا باشتراط معلوميّة المال المحال عليه في الحوالة المقيّدة، كما هو موجود في المال المحال به، ولكن يستنتج من قواعد الحنفيّة هذا الاشتراط‏.‏

سادساً‏:‏ كون المال المحال به أو عليه ثابتاً قبل الحوالة

أ - المال المحال به‏:‏

81 - صرّح المالكيّة باشتراط ثبوت المال المحال به في الذّمّة قبل الحوالة‏.‏

وفرّعوا عليه أنّه لا يصحّ أن يسلف ‏(‏يقرض‏)‏ شخص آخر نقوداً أو طعاماً مثلاً، على أن يستوفي المسلف ممّن هو مدين للمستلف بمثل ذلك، إذ من الواضح في هذه الحالة أنّ الدّين المحال به لم يثبت إلاّ مع الحوالة في وقت واحد‏.‏

وبعض المالكيّة يصرّحون، بأن لا بأس أن تكتري من رجل داره بدين لك حالّ أو مؤجّل على رجل آخر، وتحيله عليه في الوقت نفسه‏.‏

وعند الحنابلة أنّ المحيل إذا أحال شخصاً غير مدين له على من عليه دين للمحيل فهي وكالة جرت بلفظ الحوالة‏.‏

ب - المال المحال عليه‏:‏

82 - اشترط المالكيّة والحنابلة، ثبوت المال المحال عليه قبل الحوالة، وفرّع الباجيّ من المالكيّة على هذه الشّريطة أنّ المدين لو أحال على غير مدينه ثمّ أعطى المحال عليه ما يقضي به دين الحوالة، فأفلس هذا أو مات قبل أن يقضي الدّين يكون للمحال الحقّ في الرّجوع على المحيل بدينه، ثمّ يرجع هذا بدوره على المحال عليه بما كان أعطاه، لكن هذا هو حكم الحمالة عندهم، وهذه الواقعة هي من الحمالة وإعطاؤه بعد ذلك ما يقضي به لا تتحوّل به هذه الحمالة إلى حوالة‏.‏

ولكن الشّافعيّة ينصّون على خلاف هذا‏.‏ فقد قال الخطيب‏:‏ ‏"‏ فإن قيل‏:‏ إنّ صحّة الحوالة - أي بالثّمن على المشتري - زمن الخيار مشكل، إذا كان الخيار للبائع أو لهما ‏"‏ يعني البائع والمشتري ‏"‏، لأنّ الثّمن لم ينتقل عن ملك المشتري، أجيب بأنّ البائع إذا أحال فقد أجاز، فوقعت الحوالة مقارنةً للملك وذلك كاف ‏"‏‏.‏

سابعاً‏:‏ كون المال المحال به أو عليه حالّاً

أ - المال المحال به‏:‏

83 - لا تصحّ الحوالة بدين لم يحلّ أجله بعد، إلاّ إذا كان الدّين المحال عليه قد حلّ، إذ لو لم يحلّ هو أيضاً فلا أقلّ من أن يلزم بيع الكالئ بالكالئ، وينضاف إليه محذور آخر هو ربا النّساء، إن جمعت الدّينين علّة ربويّة واحدة‏.‏

هكذا قرّر المالكيّة هذه الشّريطة بإطلاقها هذا، على طريقة ابن القاسم‏.‏

واشترط الحنفيّة أن يستمرّ حلول المال المحال به إن كان حالّاً، في الحوالة بمال القاصر وما شاكلها من كلّ من تجب فيه رعاية الأصلح لصاحبه، لأنّ الحوالة به إلى أجل إبراء مؤقّت فلا يجوز اعتباراً بالإبراء المؤبّد الّذي لا يملكه الوليّ في مال القاصر، وقد أطلق أبو يوسف هنا، ولم يفصّل تفصيل أبي حنيفة ومحمّد بين الدّين الواجب بعقد الأب أو الوصيّ، فيجوز تأجيله، والدّين الواجب بغير عقدهما - كالإرث والإتلاف - فلا يجوز‏.‏

نقله في البحر عن المحيط، ثمّ قال‏:‏ وكذا قبول الحوالة من المتولّي أي ‏"‏ ناظر الوقف ‏"‏ فهي على هذا التّفصيل‏.‏

وهذه الشّريطة ليست إلاّ تطبيقاً جزئيّاً للأصل العامّ، الّذي لا يختلف عليه، في تصرّفات الوليّ من أنّها منوطة بالمصلحة ‏(‏ر‏:‏ ف / 96‏)‏‏.‏

ب - المال المحال عليه‏:‏

84 - اشترط المالكيّة حلول المال المحال عليه، ولو لم يكن الدّين المحال به حالّاً‏.‏

ثامناً‏:‏ كون المال المحال به أو عليه مثليّاً

85 - لا خلاف بين الفقهاء في صحّة الحوالة بالدّين أو الحوالة عليه إن كان المال مثليّاً، وذهب جمهور الفقهاء - وهو الأصحّ عند الشّافعيّة - إلى صحّة الحوالة بالدّين القيميّ أو الحوالة عليه، لأنّ ما له صفات ضابطة ففي ضبطه بها بلاغ، كما لا يجادل في ذلك أحد في باب السّلم، فيقاس القيميّ المنضبط على المثليّ ما دام كلاهما ديناً في الذّمّة له صفات تضبطه تضاف إلى معرفة النّوع والقدر‏:‏ كالثّياب، والدّوابّ - على ما فيها من الخلاف المعروف - والصّوف، والقطن، والشّعر، والأخشاب، والأحجار، والحديد، والرّصاص، والبلّور، والزّجاج، والفخّار، والورق، والكتب والآلات ما دامت ذات صفات ضابطة كإنتاج مصنع بعينه‏.‏

بل لمجتهد أن يعتبر هذه الأشياء الأخيرة حينئذ من قبيل المثليّ الّذي لا تفاوت فيه يذكر‏.‏

وذهب قلّة من الشّافعيّة والحنابلة إلى اشتراط كون المال المحال به أو عليه مثليّاً، بل من الشّافعيّة وغيرهم من يشترط خصوص الثّمنيّة ولا يكتفي بمطلق المثليّة، فلا حوالة على هذا القول إلاّ بالذّهب أو الفضّة، أو ما يجري مجراهما في التّعامل النّقديّ‏.‏

والمراد عند هؤلاء جميعاً بالمثليّة أن يكون الدّين من جنس ما يكال أو يوزن ويضبطه الوصف، كالنّقود والحبوب والأدهان، فلا تصحّ الحوالة بالقيميّ، وهو ما خرج عن هذا النّمط كالثّياب المتفاوتة، والحيوان، فقد يثبت شيء من غير المثليّ في الذّمّة، كما لو بيع بوصف، أو التزم صداقاً، أو بدل خلع، ولكن لا يحال به، لأنّ المقصود بالحوالة الوصول إلى الحقّ دون تفاوت، وهذا لا يكون إلاّ في المثليّات‏.‏

تاسعاً‏:‏ كون المالين المحال به أو عليه متساويين جنساً وقدراً وصفةً

86 - لم يشترط الحنفيّة التّساوي بين المالين المحال به والمحال عليه في الحوالة المقيّدة جنساً أو قدراً أو صفةً، وإنّما الكلام في اشتراط ذلك يجري على غير مذهبهم‏.‏

وتفصيل ذلك فيما يلي‏:‏

أ - المال المحال به‏:‏

87 - المراد بالصّفة ما يشمل الجودة والرّداءة، والحلول والتّأجيل، وقدر الأجل، لا صفة التّوثّق برهن أو ضمان، بل هذه تسقط عن كلا الدّينين بمجرّد الحوالة، لأنّها بمثابة القبض، فلا تصحّ الحوالة بنقود فضّيّة على ذهبيّة، أو ذهبيّة على فضّيّة، ولا بقمح على شعير، ولا بضأن على معز، ولا عكسه، ولا بخمسة أثواب، مثلاً على عشرة، ولا بعشرة على خمسة ‏"‏ نعم إذا كان له عشرة على آخر، فأحال على خمسة منها بخمسة صحّت الحوالة لتحقّق الشّريطة ‏"‏، ولا بالمغشوش على الخالص ولا بالخالص على المغشوش، ولا بحالّ على مؤجّل، ولا بمؤجّل على حالّ، ولا بمؤجّل إلى شهر على مؤجّل إلى شهرين ولا عكسه‏.‏ ولكنّها تصحّ بمائة دينار ذهبيّة من نقود بلد بعينه، أو مائة إردبّ من القمح الهنديّ، أو مائة شاة من الضّأن التّركيّ مضبوطة الوصف سنّاً ولوناً - وما إليها - على مائة مثلها، والدّينان حالّان، أو مؤجّلان إلى أجل واحد كسنة مثلاً‏.‏

والحكمة في اشتراط هذه الشّريطة، أنّ الحوالة - سواء جرينا على أنّها معاوضة أو ليست بمعاوضة - عقد إرفاق يقصد به الإيفاء والاستيفاء، لا الاسترباح والاستكثار، فلو أذن بالتّفاوت فيها لتبارى المتعاملون بها، كلّ يريد أن يغبن الآخر، ويصيب منه أكثر ممّا يترك له، وهذا خلاف موضوعها‏.‏ ثمّ بالنّسبة إلى من لا يشترطون رضا المحال، كيف يعقل إجباره مع اختلاف الدّينين‏؟‏

ومبالغةً في اتّقاء التّفاوت منع القاضي أبو الطّيّب من الشّافعيّة صحّة الحوالة بألف على شخصين، كلّ منهما مدين للمحيل بألف على التّضامن، على أن يطالب المحال أيّهما شاء، وعلّل المنع بأنّ المحال يستفيد زيادةً في المطالبة، إذ كان قبل الحوالة يطالب واحداً، فصار بعدها يطالب اثنين‏.‏ وإن كان الشّيخ أبو إسحاق من الشّافعيّة أيضاً يخالفه، ويصحّح هذه الحوالة، لأنّ المحال، مهما استفاد من زيادة مطالبة، فلن يأخذ إلاّ قدر حقّه، وما يزال المتأخّرون من الشّافعيّة متأرجحين بين هذين الرّأيين‏:‏ فبينا يصحّح البلقينيّ والسّبكيّ الأوّل، يأخذ الرّمليّ الكبير بالثّاني‏.‏

هكذا قرّر الشّافعيّة هذه الشّريطة، وفق ما استقرّ عليه المذهب، وإن كان منهم من ينازع في شريطة التّساوي في الصّفة إذا كان التّفاوت لمصلحة المحال، لأنّ المحيل إذن متبرّع بالزّيادة على سبيل إحسان القضاء‏.‏

88 - وهذه الشّريطة يقرّرها أيضًا المالكيّة والحنابلة، ‏(‏ر‏:‏ ف / 83‏)‏، باستثناء ما تفرّد به المالكيّة من أنّ محلّ المنع عند الاختلاف بالجودة والرّداءة، أو القلّة، والكثرة إذا لم يقبض المحال من المحال عليه قبل تفرّقهما‏.‏

وهؤلاء جميعاً يحاذون الشّافعيّة في تقريراتهم الآنفة الذّكر، حتّى إنّ الخلاف فيما إذا كان التّفاوت لمصلحة المحال ينصّ الحنابلة على بقائه كما هو، وإن كان المالكيّة يعكسون الموقف‏:‏ فيمنعون التّحوّل على الأعلى صفةً أو الأكثر قدراً، قولاً واحداً، ويتردّدون ويختلفون في التّحوّل على الأدنى أو الأقلّ‏.‏

وينصّ المالكيّة على أن لا خلاف في صحّة الحوالة مع التّفاوت في القدر، إذا وقعت بلفظ الإبراء من الزّيادة والحوالة بالباقي، كما لو قال الدّائن بألف‏:‏ أبرأتك من ثلاثمائة، وأحلني على مدينك فلان بالباقي، فيقول‏:‏ أحلتك وهذا واضح جدّاً‏.‏

الاستعاضة في الحوالة

89 - المراد بالاستعاضة أن يتراضى المحال والمحال عليه بعد صحّة الحوالة بدفع عوض عن المحال به‏.‏ والاستعاضة جائزة عند الحنفيّة وهو المذهب عند الحنابلة‏.‏

ولا نصّ فيها عن الشّافعيّ ولا عن قدماء أصحابه‏.‏ ولم نطّلع على مذهب المالكيّة في ذلك‏.‏

وقيّد الحنفيّة والحنابلة الجواز بأن لا يكون العوضان ربويّين، فإن كانا كذلك وجب التّقابض في المجلس‏.‏

ب - المال المحال عليه‏:‏

90 - سلف الكلام في هذه الشّريطة بالنّسبة للدّين المحال به، وهو بعينه الكلام هنا فلا حاجة إلى إعادته، بيد أنّه ينبغي التّنبيه هنا على أنّ هذه الشّريطة تفسّر في كلام بعض الشّافعيّة بالمساواة في الواقع، وفي اعتبار المتعاقدين المحيل والمحال - أي في رأيهما ومبلغ علمهما - ومعنى ذلك أنّه إذا تساوى الدّينان في الواقع ونفس الأمر، ولكنّهما جهلا هذا التّساوي أو جهله أحدهما فالحوالة باطلة، وكذلك تكون الحوالة باطلةً إذا اعتقد التّساوي، ولا تساوي، في الحقيقة‏.‏

عاشراً‏:‏ قبض المال المحال عليه ‏"‏إن كان رأس مال سلم أو ربويّاً يوافق المحال به في علّة الرّبا‏"‏

91 - صرّح الحنفيّة باشتراط قبض المال المحال عليه إن كان رأس مال سلم أو ربويّاً يوافق المحال به في علّة الرّبا، ونصّ عبارة السّرخسيّ في مبسوطه‏:‏ ‏"‏ ولأنّه - أي دين الحوالة - يثبت في ذمّة المحال عليه على الوجه الّذي كان في ذمّة المحيل، حتّى لو كان بدل صرف أو سلم لا يجوز الاستبدال به مع المحال عليه ‏"‏ كما لا يجوز مع المحيل، ويبطل عقد الصّرف والسّلم بافتراق المتعاقدين قبل القبض من المحال عليه‏.‏

ولم يذكر المالكيّة القبض هنا في حوالة الطّعام على الطّعام، لكنّهم نصّوا على ضرورته في حالة الصّرف خاصّةً وعبارتهم في عقد حوالته‏:‏ ‏"‏ لا بدّ من القبض قبل افتراق كلامهم، وقبل طول مجلسهم، وإلاّ فسد ‏"‏‏.‏

ولم يتردّد الشّافعيّة في رفض هذه الشّريطة ولو في الرّبويّات، لأنّ المعاوضة في الحوالة - بعد القول بها - ليس على سنن سائر المعاوضات‏.‏

ونصّ عبارة الشّافعيّة كما يلي‏:‏ هي - أي الحوالة - بيع دين بدين جوّز للحاجة، ولهذا لم يعتبر التّقابض في المجلس، وإن كان الدّينان ربويّين‏.‏

أمّا في رأس مال السّلم، فيقول البجيرميّ فيما كتبه على شرح المنهاج من كتب الشّافعيّة المعتمدة‏:‏ لا تصحّ الحوالة بما لا يعتاض عنه، ولا تصحّ الحوالة عليه، كدين السّلم، أي مسلماً فيه ورأس مال ‏(‏أيّهما كان‏)‏‏.‏

ما لا يشترط في الحوالة

92 - لا يشترط أن يكون سبب الدّينين في الحوالة من نوع واحد، بأن يكون كلاهما من قرض، أو بيع، أو ضمان مثلاً، فلا مانع أن يكون أحد ديني الحوالة من عقد معاوضة، والآخر دين إتلاف مثلاً‏.‏ أو أحدهما صداقاً، والآخر بدل خلع، أو بدل قرض، أو أجرة‏.‏ كما لا يشترط أيضاً أن يكون الدّين المحال به ثابتاً على المحيل ثبوتاً أصليّاً‏.‏

فالدّين الّذي يكون في غير محلّه الأصيل، كما لو كان من حوالة أو كفالة، تصحّ الحوالة به، بأن يحيل المحال عليه أو الكفيل على مدين له هو‏.‏ بل يجوز أيضاً للمحال أن يحيل دائنه على المحال عليه، وللمكفول له أن يحيل دائنه على الكفيل‏.‏

وهذا في الأصل موجود في كتب الشّافعيّة، مع زيادة تعدّد المحالين مع بقاء المحال عليه واحداً‏.‏ ونصّ عبارة الرّافعيّ في الشّرح الكبير هكذا‏:‏ إذا أحلت زيداً على عمرو، ثمّ أحال عمرو زيداً على بكر، ثمّ أحال بكر على آخر، جاز‏.‏ وقد تعدّد المحال عليهم وزيد المحال واحد‏.‏ ولو أحلت زيداً على عمرو، ثمّ أحال زيد بكراً على عمرو، ثمّ أحال بكر آخر على عمرو جاز، والتّعدّد هاهنا في المحتالين، وعمرو المحال عليه واحد‏.‏ ولو أحلت زيداً على عمرو، ثمّ ثبت لعمرو عليك مثل ذلك الدّين فأحال زيداً عليك جاز‏.‏

الجزاء على تخلّف إحدى شرائط الانعقاد ‏"‏بطلان الحوالة‏"‏

93 - إذا عدمت شرائط انعقاد الحوالة كلّاً أو بعضاً فالنّتيجة المقرّرة فقهًا هي بطلانها، أي عدم انعقادها، جزاءً لمخالفة تلك الشّرائط‏.‏

وهذا مبدأ متّفق عليه بين فقهاء الشّريعة ولا مجال للخلاف فيه، وإلاّ لم يبق أيّة ثمرة لشرائط الانعقاد ‏"‏ وهذا معروف في الأحكام العامّة للتّعاقد ممّا يسمّى اليوم‏:‏ نظريّة العقد ‏"‏‏.‏ ولكن قد يختلف الفقهاء في اشتراط بعض الشّرائط لانعقاد الحوالة، فمن يشترط لانعقاد شريطة ما، يحكم ببطلان الحوالة عند فقد هذه الشّريطة، ويخالفه في ذلك من لا يشترطها‏.‏ ومن المقرّر في القواعد أنّه يستوي في النّتيجة تخلّف جميع المقوّمات وشرائط الانعقاد وتخلّف بعضها فقط، فإنّ تخلّف بعض العناصر الأساسيّة، كتخلّف الكلّ من حيث النّتيجة وهي البطلان‏.‏

ومن الواضح أنّه حيثما يتقرّر بطلان الحوالة فإنّ هذا البطلان يستتبع آثاراً، إذ يجب فيه عندئذ نقض ما قد تمّ تنفيذه من العقد قبل تقرير بطلانه، ثمّ ردّ ما يستلزم هذا النّقض ردّه ممّا قبض دون حقّ، كما هو معلوم من الأحكام العامّة في التّعاقد‏.‏

وسيأتي في آثار الحوالة والأحكام المترتّبة عليها أنّ الحوالة الصّحيحة الّتي نفذت بدفع المحال عليه إلى المحال دين الحوالة يترتّب فيها للمحال عليه حقّ الرّجوع على المحيل‏.‏ غير أنّهم في الحوالة الباطلة أو الفاسدة قد أعطوا المحال عليه الخيار في الرّجوع على المحيل أو على المحال القابض، لأنّه قبض ما ليس له بحقّ نظراً لبطلان الحوالة‏.‏